كيف تحولت تركيا إلى “حصان طروادة” في الشرق الأوسط؟

التوترات التركية بلغت حد الذروة في تصاعد درامي عاصف لا يُنذر إلا بسقوط تراجيدي لبطل الأحداث، كأي عمل درامي على مستوى جيد من المتانة من حيث العقدة الدرامية وحلولها.
كانت شرارة البداية حينما بدأت الدولة التركية لعب دور “الوكالة” في تفكيك المنطقة العربية، وهو مصطلح أريد أن أحييه من جديد بعد أن أصبح هناك استسلام لمفهوم “الشرق الأوسط الجديد”، وإن شئت فقل “الشرق الأوسط العنيف”، من أجل إقحام أطراف لم تكن يومًا جزءًا من مكونات المنطقة العربية بواقعها الديموغرافي المؤثر.
لعب نظام الإخوان في تركيا دورًا أساسيًا في خلق بؤر الإرهاب واحتدام الصراع وتفكيك الدول، في استراتيجية كانت ولا تزال العائق الوحيد أمامها هو مصر، بجيشها العظيم ومؤسساتها القوية وشعبها الواعي، الذي أسقط مع جيشه استراتيجية الحكم باسم الدين عبر سقوط الإخوان المسلمين سقوطًا مدويًا في مصر، جراء أفعالهم وتواؤمهم مع كل مخططات الهدم الدولية، بدعم تركي خالص. وكأنني أرى أفغانستان جديدة، حينما رضيت الدولة التركية أن تكون ممرًا آمنًا دافئًا لتمرير كل أنواع التجارة غير المصرح بها دوليًا.
لقد دعمت تهريب المازوت والمخدرات عبر التنظيمات الإرهابية بعد خلق بؤر النزاع المسلح في سوريا، بالإضافة إلى الاجتياح غير المبرر لسوريا عبر اقتحام الحدود وارتكاب مجازر عديدة، أهمها مجزرة عفرين وشمال العراق، بحجة مجابهة الأكراد، الأعداء التاريخيين لها. حتى بلغ حد التهريب أن برميل البترول السوري كان يُباع بأقل من دولار إلى أوروبا، مما ضغط على دول إنتاج النفط العربية وأثر على اقتصاداتها لفترات عديدة، لتأخذ تركيا نصيب الوسيط من الكعكة.
كل ذلك كان ضمن مخطط لسكّ عملة جديدة لإعادة الخلافة بمفهومها الحديث، وكان الغطاء الإسلامي حجة قوية لكسب تعاطف الشعوب المخدوعة بهذه الشعارات الرنانة. حتى بلغ الأمر حد تهريب مدن أثرية آشورية من العراق وسوريا إلى أثرياء العالم، باعترافهم واعتراف معارضي النظام الحالي في تركيا، الذي لا يترك مجالًا للديمقراطية أو التحول السياسي.
فعندما قرر عمدة بلدية إسطنبول الترشح في الانتخابات المقبلة، لم يكن مصيره إلا القبض عليه بتهم فساد، في مشهد واضح من القمع السياسي. وقد اندلعت احتجاجات في أنحاء البلاد مطالبةً بتغيير هذا الشكل غير الديمقراطي.
الشعب التركي يقف عند مفترق طرق هام جدًا؛ فإما استمرار استراتيجية الحكم المنفصم بين العلمانية والفاشية باسم الدين، وفقًا لما تقتضيه الحاجة، أو أن يبدأوا مرحلة جديدة بالتخلي عن استراتيجية الحكم بالوكالة لصالح القوى الأوروبية. فبحسب علماء الاجتماع والمتخصصين في سيكولوجيا الشعوب، ينقسم المجتمع التركي إلى فريقين يفصل بينهما جسر البوسفور:
أحدهما يحمل الهوية الأوروبية العلمانية، أو إن شئت فقل “الحلم الأتاتوركي”، الذي أدى إلى انهيار الدولة العثمانية وتشييع جنازة “رجل أوروبا المريض”.
بينما الفريق الآخر، على الطرف المقابل، يحمل هوية تستخدم الإسلام كوسيلة للتحكم والإدارة والتجارة، وليس كمنهج وطريق إلى الله. خلفهم كل المخدوعين باسم الدين، وكل المتشددين والمتعاطفين في كل مكان. والأهم أنهم يأبون العبور إلى الفريق الآخر.
يبدو أنها بداية لسقوط تراجيدي جديد، وتوتر ليس بجديد على تركيا، فقد بدأت الحكاية مع أول انقلاب عام 1923 بعد الحرب العالمية الأولى، حين أسقط مصطفى كمال أتاتورك الخلافة وأعلن الدولة العلمانية، ممهدًا بذلك لكل صراع يحدث الآن في الإقليم.
وفي 27 مايو 1960، أطاحت مجموعة من الجنرالات الأتراك بحكومة عدنان مندريس، أول رئيس وزراء منتخب ديمقراطيًا، والذي انتهى به الحال إلى الإعدام بعد محاكمة.
وفي 12 مارس 1971، وقع انقلاب آخر، لكنه لم يتسبب إلا في تغيير الحكومة، فيما يُعرف في تركيا بـ”انقلاب المذكرة”.
أما في 12 سبتمبر 1980، فحدث انقلاب عسكري ثالث، وهو من أقوى الانقلابات التي زلزلت الحكم في تركيا، بقيادة الجنرال كنعان إيفرين، الذي أطاح بالحكومة وتولى الرئاسة حتى عام 1986، بعدما قام بتصفية كافة معارضيه، إما بالنفي أو السجن أو الإعدام. والمثير أن السفارة الأمريكية في تركيا علّقت آنذاك بعبارة مأثورة من كلمتين: “أولادنا فعلوها”.
وفي 28 فبراير 1997، وقع ما يُعرف بـ”انقلاب ما بعد الحداثة”، حيث ضغط الجيش على الحكومة الإسلامية لإجراء إصلاحات، بعد أن أدخلت الدولة في مرحلة عنيفة من التشدد الديني واستخدامه سياسيًا، مما أدى إلى صدام بين الجماهير.
وأخيرًا، في 15 يوليو 2016، حاولت مجموعة من الجيش تنفيذ انقلاب، إلا أن المعلومات الاستخباراتية الأمريكية أنقذت الحكومة، مما جعل هذه المحاولة تنضم إلى سلسلة المحاولات الفاشلة للانقلاب في تركيا. وكان المشهد الأكثر مأساوية هو تجريد الجنود من ملابسهم وإهانتهم، ليتم لاحقًا استخدامهم من قبل الاستخبارات الأمريكية، بمباركة تركية، كمقاتلين في صفوف تنظيم داعش. كما تم تدريب التنظيمات الإرهابية على يد الجنرالات الأتراك، لمواجهة الجيش المصري عسكريًا.
وهكذا، تحول أسلوب التنظيمات الإرهابية من حرب العصابات إلى أسلوب قتالي أكثر تنظيمًا، قادر على مواجهة الجيوش النظامية وتصدير الرعب لكل من يخالف التعليمات الغربية، ليصبح الأمن سلعة تُباع وتُشترى. لذا، كان تصريح المؤسسات المصرية العريقة، على لسان السيد الرئيس، في محله تمامًا: “مصر تحارب الإرهاب نيابة عن العالم أجمع”.
هذا هو جزء من تاريخ الصراع التركي المعتاد، الذي في كل مرة يكون محورًا هامًا لاستراتيجية أكثر حدة من ذي قبل على المحيط الإقليمي.
فلا تنخدع بالوجه المزيف والتشدق بالدين، فهو بالنسبة لهم مجرد وسيلة لتحقيق غاية السيطرة، ولو كان ذلك على حساب الجميع.
فهل نشهد سقوطًا تراجيديًا جديدًا يُسجَّل في التاريخ، أم نرى وجهًا جديدًا أكثر تبعية للنظام العالمي الجديد؟ لننتظر!