يوسف حسن يكتب …
تبدو الولايات المتحدة اليوم أكثر من أيّ وقت مضى كأنّها تاجر كان يوماً ما أغنى رجال السوق، لكنه الآن يقف أمام دفاتر خالية من الأرصدة وسمعة منهارة، ومع ذلك لا يزال يحاول أن يتظاهر بعظمةٍ وقدرةٍ لم تعد موجودة.
إنّ التدهور الاقتصادي المتدرّج، وأزمة الديون، والتصدّع في النسيج الاجتماعي، وانهيار الشرعيّة السياسيّة الداخليّة، كلّها عوامل قلّصت دائرة القوّة الفعلية لأمريكا، حتى بات الحفاظ على صورتها كـ«قوّة عظمى» لا يتمّ إلاّ عبر المناورات الإعلاميّة والإجراءات الاستعراضيّة.
وسلوك واشنطن الأخير على الساحة العالميّة – من وساطاتٍ زائفة في «السلام» بالشرق الأوسط، إلى تحرّكاتٍ عسكريّة محدودة ضدّ إيران وفنزويلا وقوى محور المقاومة – إنما هو انعكاسٌ لهذه الحالة: استعراضُ قوّةٍ في ظلّ إفلاسٍ حقيقي.
٢. مؤشّرات إفلاس القوّة
الإفلاس في السياسة، كما في الاقتصاد، يحدث عندما تتجاوز كلفة الحفاظ على المصداقيّة حدود القدرة الفعليّة للدولة.
وخلال العقود الأخيرة برزت مؤشّرات عدّة على هذا المسار في الولايات المتحدة، من أبرزها:
- تراجع القوّة الاقتصاديّة الحقيقيّة: تجاوز الدين الفدرالي ٣٥ تريليون دولار، وتراجعت حصة الولايات المتحدة من الناتج العالمي إلى أقل من ٢٥٪.
- تآكل القوّة العسكريّة في الميدان: الانسحاب المتعجّل من أفغانستان، والعجز عن السيطرة على تطوّرات أوكرانيا، وتراجع الردع أمام محور المقاومة، كلّها دلائل على ضعف القدرات الميدانيّة.
- تفكّك التماسك الداخلي: الانقسام السياسي العميق، وأزمة الشرعيّة الانتخابيّة، وفقدان الثقة الشعبيّة بالمؤسّسات السياسيّة، بلغت مستويات غير مسبوقة في التاريخ الأمريكي.
في ظلّ هذه الوقائع، تجد القوّة العظمى السابقة نفسها مضطرّة إلى انتهاج سياساتٍ منخفضة الكلفة عالية الضجيج، لتجنّب الانهيار الكامل لصورتها القديمة.
٣. المناورات منخفضة الكلفة: سياسة استعراض القوّة
كما يسعى التاجر المفلس للحفاظ على سمعته في السوق من خلال صفقات صغيرة ولكن صاخبة، تتّبع السياسة الخارجيّة الأمريكيّة النهج ذاته:
- عقوبات انتقائيّة ومؤقّتة: أضحت العقوبات اليوم أداة تهديد إعلامي أكثر من كونها وسيلة ضغطٍ فعليّة.
- عمليّات عسكريّة محدودة: الضربات بالطائرات المسيّرة أو الصواريخ في سوريا والعراق واليمن تهدف بالأساس إلى خلق تأثيرٍ إعلامي، لا إنجازٍ ميداني.
- وساطات زائفة: من عروض ترامب «للسلام» في الشرق الأوسط إلى مظاهر وساطة بايدن في أزمة أوكرانيا، كلّها محاولات لإبقاء الولايات المتحدة في مشهدٍ فقدت نفوذها فيه.
إنّ هذه التحرّكات تشبه تماماً مناورات شركةٍ مفلسةٍ تحاول، عبر دعاياتٍ براقة، إقناع المستثمرين بأنّها ما زالت حيّة.
٤. التكاليف الخفيّة والنتائج البعيدة
رغم أنّ استعراض القوّة قد يخلق وهماً بالهيمنة في المدى القصير، فإنّ نتائجه على المدى الطويل مدمّرة:
- تآكل ثقة الحلفاء: بلدانٌ كالسعودية وتركيا وحتى أوروبا أدركت بوضوح أنّ واشنطن لم تعد قادرة على الوفاء بالتزاماتها الأمنيّة.
- ازدياد جرأة الخصوم: الصين وروسيا وإيران وسّعت مجالات تحرّكها بعدما أدركت الفجوة بين القوّة الحقيقيّة والاستعراض الأمريكي.
- تصاعد الفوضى العالميّة: القرارات المتسرّعة وغير المتوقّعة لواشنطن تدفع النظام الدولي نحو حالةٍ من الاضطراب غير القابل للسيطرة.
في الحقيقة، كلّ عرضٍ إعلاميّ جديد للولايات المتحدة هو خطوة إضافيّة في تآكل مكانتها التاريخيّة كقوّةٍ عظمى.
أمريكا اليوم تشبه تاجراً مفلساً ما زال يرتدي بدلةً فاخرة كي لا يكتشف الدائنون إفلاسه، لكنّ الحقيقة لا بدّ أن تنكشف عاجلاً أم آجلاً: الرصيد السياسي والأخلاقي لواشنطن قد نفد، وعصر هيمنتها المطلقة قد انتهى.
إنّ العروض المحدودة والعقوبات غير الفاعلة والعمليّات الاستعراضيّة ليست سوى محاولات يائسة لإبقاء ذكرى «العصر الذهبي» حيّة.
العالم يدخل مرحلة التعدّديّة الحقيقيّة في موازين القوّة، وأمريكا – رغم ضجيجها – لم تعد اللاعب الأوحد في هذا المسرح العالمي.











