بقلم: قـوت الشـمري
في مكانٍ محايد بين الحياة والمجهول، حيث يبدو كل شيء مُعلقًا على حافة الانتظار، تمتد الساعات كأنها خيوط دخان تنسحب ببطء في فضاء بلا نهاية. الجدران تفتقد الهوية، صماء كأنها لم تعرف يومًا لونًا أو دفئًا، والهواء مثقل برائحة الخوف والرجاء، ممزوجة بنبضٍ ضعيف لا يتوقف، كأنه شريان يرفض الانهيار رغم عبء الفقد المعلق عليههنا، تتجمع الأرواح المنهكة، ليس بوعيها فقط، بل بكيانها الكامل. أجساد متعبة تحمل ما تبقى من أحلامها الممزقة، كأنها تحاول لملمة أجزائها التي تبعثرت في دروب لا تنتهي. لا صوت يطغى على المكان سوى رتابة الأجهزة، كإيقاع حياة يواصل التشبث بحافة الفراغ، وكأنها تكتب قصة تحدٍّ ضد السكون القاتلالنافذة هناك، مغلقة دائمًا، تتطلع إلى سماء رمادية لا تعرف حركة السحاب ولا دفء الشمس. تبدو كعين باردة تتأمل المشهد من علٍ، تُذكّر كل من يمر تحت ظلالها أن هناك عالمًا آخر يدور بلا اكتراث، عالمًا لا يتوقف عند حدود الألم. انعكاس الزجاج الشاحب يفضح وجوهًا متعبة بملامح ثقيلة، كأنها صفحات رواية غارقة في صراعها الداخلي. تلك الوجوه لا تبوح، لكنها تحمل في صمتها حكاياتٍ تضج بالمعاني المخفيةفي الممر الطويل، تترجم الخطوات الإيقاع المتباين للأرواح. خطواتٌ متسرعة تنقل خوفًا لا يُحتمل، وأخرى متباطئة مثقلة بحيرة قاتلة. كل وجه يمرّ، كل انحناءة كتف أو نظرة عين، تروي فصولًا غير مكتملة من كتاب الألم. الجدران هناك ليست سوى صفحات صامتة، أبطالها لا يتكلمون، لكنهم يكتبون تفاصيل مأساتهم بخطى مترددةوفي الزاوية البعيدة، يقف كرسي يبدو كملاذٍ للعابرين، أو ربما فخٍّ يُثقل الروح. كل من يجلس عليه، يُلقي بأثقال قلبه عليه، لكنه لا يشتكي. الكرسي شاهد على انسكاب الدموع التي لم تجد صوتًا، وعلى الأنفاس التي اختنقت في انتظارٍ عقيم، وعلى الدعوات التي صعدت بصمتٍ لتخترق سقف السماء الرماديأما الأصوات التي تأتي من بعيد، فهي أشبه بشذرات حياة ترفض الموت. ضحكة خافتة تكاد تُنسى وسط ثقل الألم، بكاء مكتوم يُكافح للخروج دون جدوى، وحفيف خطوات يعتذر عن إزعاج هشاشة اللحظة. هذه الأصوات ليست مجرد تفاصيل عابرة؛ إنها علامات على أن الحياة، رغم هشاشتها هنا، لا تزال تحارب من أجل البقاءفي هذا المكان، يُدرك الجميع أن الألم ليس لحظة عابرة، بل درسٌ عميق ينزع الأقنعة عن الوجوه، يكشف الضعف والقوة في آنٍ واحد. هنا، يتعلم الإنسان أن المعاني لا تُعطى بسهولة، وأن الفهم الحقيقي لا يأتي إلا عبر مواجهة حافة الانكساركل نبضة تخبرك بأنك لا تزال هنا، وأن الحياة، رغم قسوتها، تمنحك في كل لحظة فرصة جديدة لإعادة صياغة وجودك. هنا، لا تتحدث الأشياء، لكنها تهمس بحقائق تُثقل الروح: أن الانتظار اختبار، وأن الألم معلم صامت، وأن النجاة ليست هدفًا، بل حالة مستمرة من الصراع مع المجهول.