بقلم : الكاتبة چولى ملك
في اللحظة التي يواجه فيها المواطن المصري غلاءً لا يرحم، وتتعاظم فيه ضغوط الحياة اليومية، تقف الدولة أمام أخطر ثغرة تستنزف اقتصادها: منظومة متشابكة من التوريث البرلماني، والتهرّب الضريبي، وإخفاء الثروات الحقيقية، واستغلال القوائم الانتخابية المغلقة، وصولًا إلى شبكات الاتجار غير المشروع بالآثار. إنها منظومة لا تعمل بضجيج، لكنها تترك أثرًا واضحًا في شكل خدمات ضعيفة، وبنية اقتصادية هشة، وشباب يفقد الثقة فيجبر على الهجره و الغربه.
التوريث البرلماني ليس مجرد انتقال مقعد من أب إلى ابن، بل هو انتقال نفوذ كامل يتجاوز حدود السياسة إلى مساحات المال والسلطة. المقعد الذي يفترض أن يمثّل الناس، يتحول في بعض الدوائر إلى ملكية خاصة تُعامل كأنها أطيان تُورَّث، لا مسؤولية عامة تُكتسب بالكفاءة. ومع هذا التوريث يتراجع دور البرلمان من سلطة رقابية وتشريعية إلى دائرة مغلقة تتكرر فيها الوجوه والولاءات ذاتها، فتتراكم الأخطاء دون محاسبة حقيقية.
لكن الوجه الأخطر لهذه الظاهرة هو الثروة التي تُبنى حول المقعد. ثروات لا تخضع في كثير من الأحيان لرقابة صارمة، وتُدار عبر شبكة من الأسماء الوهمية وشركات الظل. تُكتب الممتلكات باسماء أشخاص لا علاقة لهم بالمال الحقيقي، وتُنقل العقارات بطرق ملتوية، وتُقسَّم الأراضي بآليات معقدة تخفي الأصل وتمنح الغطاء. وهكذا يتحول التهرب الضريبي إلى أسلوب حياة لدى بعض أصحاب النفوذ، بينما يتحمل المواطن العادي عبء الضرائب كاملة من راتبه المحدود.
ولا يمكن الحديث عن مكافحة هذا الخلل بدون فهم العلاقة بين المال غير المشروع وبعض أنشطة التهريب، وعلى رأسها تجارة الآثار. فهذه التجارة لا تسرق حجرًا أو قطعة فنية فحسب، بل تسرق تاريخًا كاملًا وقيمة لا تعوَّض. وهي تجارة تعتمد على غطاء محلي يوفر الحماية والتمرير وضمان الإفلات من العقاب. ومن اعتاد الكسب السهل لا يجد فرقًا بين أرض منهوبة وقطعة أثرية مهربة ما دام الاثنان يدرّان المال والنفوذ.
لكن المشكلة الأكبر أن هذه الثروات المشبوهة لا تنتهي بوفاة أصحابها. فهي تنتقل إلى الأبناء كما تنتقل العمارات والحسابات المصرفية، ومعها تنتقل العلاقات والامتيازات والمواقع السياسية. وهكذا يتحول الفساد إلى إرث متجدد يعيد إنتاج نفسه تلقائيًا، ويخلق دائرة نفوذ عائلية يصعب كسرها ما لم تتدخل الدولة بقوة القانون. ومع تكرار هذه الدائرة، يختل توازن الحياة السياسية، وتبتعد الكفاءات الحقيقية عن المشهد لصالح من يملكون المال لا الخبرة.
وتزداد الخطورة عندما تتغذى هذه المنظومة على القوائم الانتخابية المغلقة. هذا النظام، بشكله الحالي، يمنح غطاء مثالي لعبور عناصر لا تمتلك دعماً شعبيًا ولا كفاءة سياسية. يكفي أن تنتمي لعائلة نافذة أو تمتلك المال لتجد مكانك مضمونًا داخل البرلمان دون منافسة حقيقية. ومع مرور الوقت، يصبح البرلمان ممثلًا للمصالح الخاصة لا لمصالح المواطنين، وتضيع أصوات الشباب وأصحاب الرؤى الإصلاحية.
إن مصر التي تطمح لبناء اقتصاد قوي ودولة حديثة تحتاج إلى قرارات حاسمة تغلق هذه الثغرات. ولا سبيل للإصلاح الاقتصادي دون إصلاح سياسي يضمن تمثيلًا حقيقيا ، ومسؤولين يخضعون للمساءلة، وثروات تمر عبر القانون لا حوله. يجب ملاحقة كبار المتهربين و صغارهم، وفحص كل ثروة غامضة، وكشف كل ممتلكات مكتوبة صوريًا، واسترداد الأراضي المنهوبة، وتفكيك شبكات تهريب الآثار بلا استثناء.
وفي الوقت نفسه، يصبح إلغاء القوائم الانتخابية
ضرورة وطنية لضمان حياة سياسية نظيفة، تُفتح فيها الأبواب أمام الكفاءات لا الورثة. فنهضة مصر الحقيقية تبدأ عندما يشعر المواطن بأن القانون أقوى من المال، وأن الدولة تحمي حقه قبل أي اعتبار، وأن البرلمان يمثله هو لا يمثل العائلات المتوارثة للنفوذ.
وفي النهاية، يبقى الرهان الأكبر على القيادة السياسية رئيس جمهورية مصر العظيم الذي اثبت في أكثر من ملف قدرته على الحسم متى لزم الأمر. ومع الثقة الراسخة في إرادة الرئيس عبد الفتاح السيسي، فإن معالجة هذه الملفات ستكون خطوة فاصلة في بناء دولة قوية واقتصاد لا تُثقبه أيادي الفساد.










