في مشهد يختلط فيه الجد بالهزل، خرج الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب مساء أمس ليكشف عن خطته “التاريخية” لإنهاء الحرب الدائرة في غزة، متباهياً بأنه وحده القادر على فرض السلام، ومُلمّحًا إلى استحقاقه جائزة نوبل للسلام. بدا ترامب وكأنه يعيد كتابة خرائط الشرق الأوسط على هواه، وكأن المنطقة مجرد رقعة شطرنج يزيح منها فرنسا، ليضع بدلاً عنها أميركا، ويُحيي ذكرى الانتداب البريطاني في صورة جديدة مطبوعة بنجوم العلم الأميركي.

أعلن ترامب عن خطة من عشرين بندًا، أبرزها وقف إطلاق النار الفوري، انسحاب تدريجي للقوات الإسرائيلية من غزة، الإفراج عن الأسرى والرهائن، نزع سلاح حركة حماس، والإشراف على إدارة مؤقتة للقطاع تحت رعاية دولية. في ظاهرها تبدو الخطوات متوازنة، لكن تفاصيلها تكشف عن نزعة استعلائية تُحيل “السلام” إلى مجرد إملاءات مفروضة.
فقد شدد ترامب أن إسرائيل ستحتفظ بحق الرد القاسي في حال رفضت حماس أو تلكأت، كما أوضح أن واشنطن ستلعب دور الحكم والوصي على التنفيذ، في ما يشبه عودة “الانتداب” لكن بنسخة معدلة. هذه ليست خطة تفاوضية، بل أقرب إلى أوامر فوقية تصدر عن جنرال ميداني لا عن وسيط سياسي
الأكثر إثارة للسخرية أن ترامب لم يتردد في التلميح إلى أنه يستحق جائزة نوبل للسلام نظير جهوده. هذا الرجل الذي ارتبط اسمه في ولايته الأولى بالانسحابات من الاتفاقيات الدولية، وبنقل السفارة الأميركية إلى القدس، وبمزيد من الانحياز الصارخ لإسرائيل، يطل اليوم ليقول إنه “منقذ المنطقة”. كيف لرجل يلوّح بالتهديد أن يطالب بتاج السلام؟ وكيف لجائزة عالمية تُمنح عادة للوسطاء أن تُصبح أداة دعاية شخصية؟
قد يبدو المشهد للوهلة الأولى مجرد نكتة سياسية، لكنه يعكس جانبًا من حقيقة السياسة الأميركية: حيث تُحوَّل الأزمات إلى فرص انتخابية، وحيث تصبح دماء الأبرياء على طاولة
حين تحدث ترامب عن “إعادة رسم” الشرق الأوسط وإعادة توزيع الأدوار الدولية فيه، بدا وكأنه يُحيي زمن الانتداب البريطاني في بدايات القرن العشرين، حين كانت لندن تقرر مصائر الشعوب وتعيد تقسيم الحدود. اليوم، المشهد لا يختلف كثيرًا سوى في تغيير الراية: لم تعد بريطانيا هي صاحبة الكلمة، بل أميركا بسطوتها المالية والعسكرية.
إن إحياء هذا المصطلح “الانتداب” يعكس جوهر الخطة: فرض وصاية جديدة على المنطقة تحت غطاء “السلام”. والوصاية تعني عمليًا تقييد سيادة الشعوب وفرض ترتيبات تخدم مصالح القوى الكبرى، وليس بالضرورة تطلعات أهالي غزة أو الفلسطينيين.
من المفارقات أن خطة ترامب تدعو إلى “نزع سلاح حماس” مقابل ضمانات أمنية لإسرائيل، لكنها لا تقدم للفلسطينيين ضمانات حقيقية لحمايتهم من الاحتلال أو للاستجابة لمطالبهم الأساسية بالحرية والاستقلال. هنا يظهر التناقض الأكبر: سلام بلا عدالة، وحلّ يكرس ميزان القوى القائم بدلًا من موازنته.
كما أن المطالبة بإنهاء الحرب عبر قرارات فوقية تتجاهل جذور الصراع، مثل الاستيطان والاحتلال والتهجير، يجعل الخطة مجرد “مسكّن وقتي” سرعان ما يتبدد أمام أول أزمة ميدانية جديدة
خلف كل سطر في خطاب ترامب، تتجلى الغطرسة الأميركية في أوضح صورها. فالولايات المتحدة التي قدّمت لإسرائيل خلال عقود كل أشكال الدعم العسكري والسياسي، تريد أن تلعب فجأة دور الوسيط النزيه. لكنها في الواقع وسيط غير محايد، بل طرف رئيسي في المعادلة، يفرض أجندته الخاصة ثم يُسوّقها كخطة إنقاذ.
هذا التناقض يكشف أن واشنطن لا تسعى إلى تحقيق سلام عادل، بل إلى إدارة الصراع بما يضمن أمن إسرائيل واستقرار مصالحها الاستراتيجية في المنطقة. أمّا الفلسطينيون، فهم يُتركون في خانة “المطلوب منهم الطاعة”، تمامًا كما كان حال الشعوب العربية إبان الانتداب البريطاني.
المتابع لخطاب ترامب يلاحظ أنه لم يكن خطاب رجل دولة يسعى لحل أزمة إنسانية، بل كان أقرب إلى عرض مسرحي مليء بالشعارات. تحدث بثقة مبالغ فيها، استعرض الخطوات كما لو كانت خطة بناء ناطحة سحاب، وحرص على التلويح بأنه “الوحيد القادر” على إيقاف الحرب. هذه اللغة ليست لغة تفاوضية، بل لغة استعراضية تُخاطب الكاميرات والجماهير، أكثر مما تخاطب أطراف النزاع.
بعيدًا عن البنود العشرين المعلنة، تحمل خطة ترامب رسائل أعمق:
إعادة تأكيد الهيمنة الأميركية في لحظة يزداد فيها النفوذ الروسي والصيني بالمنطقة.
تكريس الانحياز لإسرائيل مع منحها اليد العليا في أي عملية سياسية.
تهميش الدور الأوروبي، وخاصة فرنسا، لصالح قيادة أميركية مطلقة.
تحويل غزة إلى ساحة تجريب لمعادلة “الأمن مقابل السيطرة”، وهي معادلة تخدم إسرائيل أولاً وأخيرًا.
ردود الفعل المتباينة
في حين رحبت الحكومة الإسرائيلية بالخطة باعتبارها إنجازًا تاريخيًا، قابلتها حماس بتحفظ شديد، معتبرة أنها تفتقر للحد الأدنى من العدالة وتكرّس الاحتلال. أما على الصعيد الدولي، فقد انقسمت المواقف بين داعمين للخطة باعتبارها “خطوة أولية”، وبين منتقدين رأوا فيها محاولة جديدة لفرض وصاية أميركية.
ما طرحه ترامب ليس خطة سلام بقدر ما هو خطة وصاية جديدة. قد تُنهي الحرب مؤقتًا، لكنها تُعيد إلى الأذهان مشهد الانتداب البريطاني الذي تقرر فيه مصائر شعوب بأوامر من عواصم بعيدة. اليوم، تتكرر القصة بوجه مختلف: أميركا بدل بريطانيا، وترامب بدل اللوردات.
السؤال الذي يطرح نفسه: هل يقبل الشرق الأوسط أن يُعاد تشكيله من جديد وفق أوهام رجل يرى في نفسه “منقذ العالم”؟ أم أن شعوب المنطقة ستجد طريقها لرفض الوصاية مهما كان لون الراية؟
بين الغطرسة الأميركية وتطلعات الشعوب، يظل المشهد مفتوحًا على صراع طويل، يُذكّرنا أن السلام الحقيقي لا يُصنع في المؤتمرات ولا يُهدى كجائزة نوبل، بل يُنتزع بالعدالة والكرامة.