بقلم : ليانغ سوو لي إعلامية صينية
يشهد العالم اليوم موجة جديدة من الاضطرابات والتحولات العميقة. فالنزاعات الإقليمية تتواصل، والتنافس الجيوسياسي يزداد حدة، والفجوة التنموية تتسع، فيما لا تزال الفجوات الحضارية قائمة. أما أوجه القصور في نظام الحوكمة الدولي، بما يتسم به من الظلم وعدم العدالة، فقد دفع ذلك العديد من الدول والشعوب إلى مواجهة تحديات جسيمة. وفي ظل هذه المعطيات، تتعاظم الحاجة أكثر من أي وقت مضى إلى بناء نظام عالمي أكثر عدلاً وإنصافاً واتزاناً.
في الأول من سبتمبر الجاري، طرح الرئيس الصيني شي جين بينغ خلال قمة “منظمة شانغهاي للتعاون بلس” في مدينة تيانجين مبادرة الحوكمة العالمية. وتشكل هذه المبادرة امتداداً لمبادرة التنمية العالمية، ومبادرة الأمن العالمي، ومبادرة الحضارة العالمية، حيث تقدم هذه المرة رؤية واضحة من زاوية الحوكمة للتعامل مع التحديات المشتركة. وتستند المبادرة إلى خمسة مبادئ أساسية هي: المساواة في السيادة، الالتزام بالقانون الدولي، التعددية، نهج يتمحور حول الشعوب، والتركيز على العمل الملموس. وهذه المبادئ ليست شعارات نظرية، بل تنسجم بعمق مع اهتمامات الدول العربية وواقعها.
أولاً، المساواة في السيادة هي القاعدة الجوهرية للعلاقات الدولية. فالدول، على اختلاف أحجامها وقوتها، يجب أن تتمتع بحقوق متساوية في المشاركة في الشؤون العالمية. غير أن هذا المبدأ كثيراً ما تعرض للانتهاك. فما زال طريق فلسطين نحو إقامة الدولة طويلاً، وتتعرض جهود إعادة إعمار العراق وسوريا لتدخلات خارجية متكررة، وهو ما يعكس بوضوح كيف قوّضت سياسات القوة مبدأ السيادة. إن إعادة التأكيد على المساواة في السيادة ضمن مبادرة الحوكمة العالمية يجسد دعم الصين الثابت لاستقلال الدول العربية وكرامتها، ويتناغم مع مطلبها التاريخي المشترك.
ثانياً، الالتزام بالقانون الدولي يمثل حجر الأساس للحفاظ على استقرار العلاقات الدولية ونظمها. فقد اعتادت بعض القوى الكبرى على تطبيق القانون الدولي بازدواجية: تلجأ إليه حين يخدم مصالحها وتتجاهله حين يتعارض معها، بل وتتجاوز أحياناً النظام الدولي القائم على الأمم المتحدة. والعمليات العسكرية التي نُفذت خارج إطار مجلس الأمن جلبت مآسي عميقة لمنطقة الشرق الأوسط. ومن هنا، تؤكد مبادرة الحوكمة العالمية ضرورة الحفاظ المشترك على سلطة ميثاق الأمم المتحدة، وترسيخ مبدأ المساواة أمام القانون الدولي. وهذا يتماشى تماماً مع التطلعات العربية إلى العدالة والإنصاف.
ثالثاً، التعددية هي السبيل الأمثل لمواجهة التحديات العالمية. ففي الوقت الذي تسعى فيه بعض الدول إلى تشكيل تكتلات وصراعات، فإن هذه السياسات لا تحل المشكلات بل تزيدها تعقيداً. أما الصين فتتمسك دائماً بالتعددية الحقيقية، وتدعو إلى تعزيز التوافق والتعاون عبر الأمم المتحدة وآليات التعاون المتعددة الأطراف، وترفض السياسات الضيقة والإقصاء. ويُعد نجاح منظمة شانغهاي للتعاون، إلى جانب النتائج المثمرة لمنتدى التعاون الصيني-العربي، دليلاً على حيوية التعاون المتعدد الأطراف. وبالنسبة للدول العربية، فإن تبني التعددية يفتح آفاقاً أوسع وفرصاً أكثر تنوعاً للنمو والتطور.
رابعاً، التركيز على الشعوب يوضح الهدف الأسمى للحوكمة. فالحوكمة العالمية لا ينبغي أن تكون أداة لخدمة مصالح قلة من الدول، بل وسيلة لتحسين حياة الشعوب. وفي مجالات التعاون الدولي مثل مكافحة الفقر، والأمن الغذائي، والتنمية الخضراء، تضع الصين دائماً الشعوب في صميم أولوياتها. وهذا يتقاطع مع احتياجات الدول العربية لإعادة بناء اقتصاداتها ومجتمعاتها، والتصدي للتغير المناخي، وتوفير فرص عمل للشباب. ومن ثم، فإن مبادرة الحوكمة العالمية، بتوجهها نحو الشعوب، تتجاوز النصوص الدبلوماسية لتشكل دليلاً عملياً يخدم الشعوب.
خامساً، التركيز على العمل الملموس هو السمة الأبرز للمبادرة. فالحوكمة تكتسب قيمتها من التطبيق والتحول إلى تعاون فعلي. وفي إطار مبادرة “الحزام والطريق”، حقق التعاون الصيني-العربي إنجازات ملموسة على الأرض. فقد أسهمت منطقة التعاون الاقتصادي والتجاري في السويس بمصر في خلق فرص عمل وتنشيط الاقتصاد، كما تعاونت الصين مع السعودية في تطوير آفاق جديدة للطاقة المتجددة والاقتصاد الرقمي، وأسهمت مشاريع الطاقة النظيفة في الإمارات في دعم التحول الأخضر. وتؤكد هذه النجاحات أن المبادرات الصينية تركز على الفعل وتثمر نتائج حقيقية.
إن مبادرة الحوكمة العالمية، إلى جانب مبادرة الأمن العالمي، ومبادرة التنمية العالمية، ومبادرة الحضارة العالمية، تشكل منظومة متكاملة ومترابطة: الحوكمة تضع القواعد، الأمن يوفر الأساس، التنمية تمنح القوة الدافعة، والحضارة تعزز التفاهم. وبالنسبة للدول العربية، فإن هذه المنظومة لا توفر فقط اليقين لدفع مسار السلام والحلول السياسية، بل تمنح أيضاً دعماً قوياً للتنويع الاقتصادي، والتحول في مجال الطاقة، وتعزيز الثقة بالهوية الحضارية.
وعليه، فإن مبادرة الحوكمة العالمية تجيب على أسئلة العصر وتلبي احتياجات الواقع العربي؛ فهي من جهة منتج عام دولي مهم تقدمه الصين، ومن جهة أخرى طريق مشترك نحو العدالة والاستقرار والازدهار.
إن مستقبل البشرية ينبغي أن يقوم على التعاون والمنفعة المتبادلة، لا على الصراع والهيمنة. ومبادرة الحوكمة العالمية تضخ طاقة إيجابية في عالم يموج بعدم اليقين. وإن الصين على استعداد للعمل مع جميع الدول لتحويل الأفكار إلى أفعال، وبناء نظام حوكمة عالمي أكثر عدلاً وإنصافاً، والمضي قدماً نحو المستقبل المشترك للبشرية.