تقرير : علياء الهواري
في مشهد يعكس تعقيدات الحرب الدائرة على غزة، ترددت أنباء متضاربة خلال الساعات الأخيرة عن مقتل أبو عبيدة، المتحدث العسكري باسم كتائب عز الدين القسام، الذراع العسكري لحركة حماس. الجيش الإسرائيلي أعلن مسؤوليته عن “تصفية” الرجل الأكثر حضورًا في الإعلام المقاوم، بينما نفت مصادر فلسطينية هذه الأنباء واعتبرتها مجرد “حرب نفسية” تهدف إلى ضرب الروح المعنوية للشعب والمقاومة. ما بين التأكيد الإسرائيلي والنفي الفلسطيني، يطفو إلى السطح سؤال جوهري: هل اغتيل أبو عبيدة بالفعل، أم أن الخبر لا يعدو كونه فصلًا جديدًا من معركة الرواية؟
أعلن الجيش الإسرائيلي عبر بيانات رسمية أن غارة جوية استهدفت شقة في حي الرمال بمدينة غزة مساء السبت، أدت إلى مقتل شخصية مركزية في قيادة حماس. وزير الدفاع الإسرائيلي يسرائيل كاتس خرج ليؤكد أن المستهدف لم يكن سوى أبو عبيدة، واصفًا العملية بـ”الإنجاز الكبير” الذي يضاف إلى سجل إسرائيل في مواجهة قيادة الحركة.
وسائل الإعلام العبرية التقطت الخبر سريعًا، واحتلت صور “أبو عبيدة” عناوين الصفحات الأولى باعتباره “الصوت الذي أحرج إسرائيل لسنوات”. بعض المحللين الإسرائيليين ذهبوا إلى حد القول إن اغتياله – إن صح – يمثل ضربة قاسية للحرب النفسية التي اعتادت كتائب القسام إدارتها ضد تل أبيب، إذ ارتبط اسمه بالبيانات المتلفزة التي عادة ما تُبث في لحظات حرجة وتُحدث صدىً واسعًا داخل المجتمع الإسرائيلي.
لكن التساؤلات سرعان ما بدأت تتصاعد داخل الأوساط الإسرائيلية نفسها: إذا كان أبو عبيدة قُتل بالفعل، فلماذا لم تُظهر إسرائيل أي أدلة مرئية أو صور توثق العملية؟ ولماذا لم تعلن كتائب القسام موقفها بشكل رسمي؟
على الجانب الآخر، خرجت مصادر أمنية وإعلامية في غزة لتنفي الأنباء المتداولة، مؤكدة أن ما تروج له إسرائيل يندرج في إطار الحرب النفسية. جهاز أمن المقاومة وصف الإعلان الإسرائيلي بأنه “محاولة يائسة لرفع معنويات جيشه المنهار في مواجهة صمود غزة”، مضيفًا أن الاحتلال “يبحث عن نصر إعلامي يعوض عجزه الميداني”.
عدد من وسائل الإعلام الفلسطينية والعربية أعادت التذكير بأن إسرائيل سبق أن روّجت في مناسبات سابقة شائعات مشابهة عن استهداف قادة المقاومة، قبل أن يتضح لاحقًا أنها مجرد دعاية لا أساس لها من الصحة. لذلك، يرى مراقبون أن الصمت الرسمي من كتائب القسام لا يعني بالضرورة تأكيد الرواية الإسرائيلية، بل قد يكون جزءًا من استراتيجية إعلامية تهدف لترك الاحتلال في حالة تخبط.
تباينت التغطية الإعلامية العربية للخبر بين من نقل الرواية الإسرائيلية بوصفها “مؤكدة”، ومن تعامل بحذر وأبقى الباب مفتوحًا على كل الاحتمالات. بعض القنوات أوردت أن الغارة استهدفت بالفعل شقة يُعتقد أن أبو عبيدة كان بداخلها، لكن دون أي توثيق يثبت مقتله. في المقابل، فضّلت وسائل إعلام أخرى التركيز على بيانات النفي الصادرة من غزة، معتبرة أن الإعلان الإسرائيلي يأتي في سياق محاولة التأثير على الجبهة الداخلية الفلسطينية.
هذا التضارب الإعلامي عكس بدوره حالة الغموض التي تحيط بالحدث، وجعل من “مصير أبو عبيدة” مادة جدلية تتصدر النقاش العام، سواء على منصات التواصل الاجتماعي أو في البرامج السياسية.
سواء كان أبو عبيدة قد قُتل بالفعل أم لا، فإن مجرد الإعلان عن اغتياله يمثل جزءًا من الحرب النفسية الدائرة بين الطرفين. فإسرائيل، التي عجزت عن تحقيق حسم عسكري بعد أشهر طويلة من القصف، تدرك أن ضرب الرموز القيادية أو التلويح بذلك يمكن أن يُحدث صدىً لدى الرأي العام الداخلي، ويُظهر الحكومة بمظهر “المنتصر”.
في المقابل، تدرك المقاومة أن صورة أبو عبيدة ليست مجرد شخصية عسكرية، بل رمز تعبوي ارتبط لدى الفلسطينيين والعرب ببيانات التحدي والصمود. وبالتالي فإن الحفاظ على غموض مصيره – سواء كان حيًا أو مقتولًا – قد يُبقي الاحتلال في دائرة القلق، ويُعزز من قدرة المقاومة على المناورة الإعلامية
ليست هذه المرة الأولى التي يثار فيها جدل حول استهداف قادة المقاومة. فقد سبق لإسرائيل أن أعلنت في مرات عدة عن اغتيال شخصيات بارزة، قبل أن يتضح أن بعضها على قيد الحياة، أو أن استهدافهم لم يؤثر على مسار العمليات العسكرية كما رُوّج له. على سبيل المثال، اغتيال قادة سياسيين وعسكريين مثل أحمد الجعبري أو بهاء أبو العطا كان له وقع إعلامي ضخم، لكنه لم ينهِ قدرة حماس أو الجهاد الإسلامي على مواصلة القتال.
هذا التاريخ يدفع الكثيرين للتشكيك في صحة الرواية الإسرائيلية حول أبو عبيدة، ويرون أنها جزء من تكتيك مكرر هدفه إدارة المعركة إعلاميًا في ظل تعثر الإنجازات الميدانية
في الشارع الفلسطيني، تباينت ردود الفعل بين من عبّر عن صدمة وغضب إزاء احتمال فقدان رمز مؤثر مثل أبو عبيدة، ومن تمسّك برواية النفي واعتبر الأمر مجرد خدعة إسرائيلية. وعلى مواقع التواصل الاجتماعي، انتشرت وسوم مثل “#أبوعبيدة” و”#حربنفسية” لتصبح منصات النقاش ساحة أخرى للمواجهة بين الروايتين.
في إسرائيل أيضًا، أُثير نقاش واسع حول ما إذا كانت الحكومة توظف هذا الإعلان لتحقيق مكاسب سياسية داخلية، خصوصًا في ظل التوترات داخل الحكومة الإسرائيلية واتهامات المعارضة لرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بالفشل في إدارة الحرب
بين رواية إسرائيل التي تحتفي باغتيال “الصوت المزلزل” لسنوات، ورواية المقاومة التي تنفي وتعتبره “أكذوبة جديدة”، يبقى مصير أبو عبيدة معلقًا في مساحة من الغموض. لكن المؤكد أن الخبر – بصرف النظر عن صحته – كشف مجددًا كيف أصبحت الحرب في غزة ليست فقط معركة صواريخ وطائرات، بل أيضًا معركة روايات وصور ورموز. وفي هذا السياق، يظل أبو عبيدة، حيًا كان أم شهيدًا، شاهدًا على أن الحروب الحديثة لا تُحسم فقط في ساحات القتال، بل أيضًا في فضاء الإعلام وقلوب الجماهير.