سفينة "مادلين": رحلة كسر الحصار التي فضحت ازدواجية الغرب

بقلم : علياء الهوارى
في مطلع يونيو 2025، انطلقت من ميناء كاتانيا في صقلية الإيطالية سفينة صغيرة تحمل اسم “مادلين”، تكريمًا لأول صيادة فلسطينية في غزة، “مادلين كولاب”. لم تكن السفينة محمّلة بصواريخ، ولا تحمل معها أجندة حزبية. بل كانت تحمل 250 كجم من المواد الغذائية، حليب أطفال، مستلزمات طبية، معدات تحلية مياه، وأطراف صناعية للأطفال — لكنها حملت ما هو أثقل من ذلك: رسالة كسر الصمت الدولي حول الحصار المفروض على قطاع غزة.

مادلين” كانت جزءًا من مبادرة “تحالف أسطول الحرية” (Freedom Flotilla Coalition)، وهي شبكة عالمية من النشطاء المناهضين للاحتلال والداعمين لحق الفلسطينيين في الحياة الكريمة. حملت السفينة على متنها 12 ناشطًا من جنسيات متعددة، أبرزهم الناشطة البيئية السويدية غريتا ثونبرغ، والنائبة الفرنسية من أصل فلسطيني ريما حسن، إلى جانب صحفيين ومتطوعين من أوروبا وأمريكا الجنوبية.

كان الهدف المعلن واضحًا: إيصال مساعدات إنسانية إلى غزة بحرًا، وكسر الحصار البحري الذي تفرضه إسرائيل منذ ما يزيد على 18 عامًا. لكن الأهم من ذلك، أن “مادلين” كانت تسعى لإيصال رسالة سياسية أخلاقية: لا يجوز أن يستمر تجويع مليونَي إنسان تحت مرأى العالم، ولا أن يبقى البحر — آخر متنفس لغزة — مغلقًا بإرادة احتلالية.
في 8 يونيو 2025، وبينما كانت “مادلين” تقترب من المياه الفلسطينية على بعد 185 كيلومترًا جنوب غرب غزة، اعترضتها البحرية الإسرائيلية في المياه الدولية. تم اقتحام السفينة واحتجاز ركابها، في مشهد أعاد إلى الأذهان حادثة سفينة “مافي مرمرة” عام 2010.
تم اقتياد “مادلين” إلى ميناء أسدود الإسرائيلي، حيث تم احتجاز جميع النشطاء على متنها. ورغم الطابع السلمي للرحلة والمساعدات الرمزية التي حملتها، تعاملت إسرائيل مع الطاقم كما لو كانوا تهديدًا أمنيًا خطيرًا.
في سابقة لافتة، صرّح وزير الدفاع الإسرائيلي بأن النشطاء سيتم عرض لقطات من أحداث 7 أكتوبر عليهم “ليعرفوا من يدافعون عنه”، في محاولة لتأطير الرحلة في سياق التحريض بدلًا من السياق الإنساني.
في الأيام التالية، تم ترحيل بعض النشطاء، من بينهم غريتا ثونبرغ التي أعيدت إلى السويد عبر فرنسا، فيما بقي ثمانية آخرون قيد الاحتجاز في انتظار ترحيلهم أو تقديمهم أمام جهات أمنية إسرائيلية. أحد النشطاء، برازيلي الجنسية، دخل في إضراب عن الطعام والماء احتجاجًا على اعتقاله “غير القانوني”.
رغم ضغوط منظمات حقوق الإنسان وبعض البرلمانيين الأوروبيين، رفضت السلطات الإسرائيلية الإفراج الفوري عن النشطاء أو الاعتراف بحقهم في التنقل السلمي، متمسكة بالرواية الأمنية رغم أن الوقائع كلها تشير إلى سلمية السفينة ومحتواها ومهمتها.
رغم الزخم الإعلامي العالمي، لم يصدر عن الاتحاد الأوروبي أو حكوماته الكبرى أي موقف رسمي موحّد أو قوي يدين اعتراض “مادلين”. اقتصر الرد على مواقف فردية من بعض النواب والمنظمات الحقوقية، وسط انتقادات متزايدة بشأن ازدواجية المعايير الأوروبية: إذ تُدافَع حرية الملاحة حين تمس أوكرانيا، وتُغضّ الأنظار حين تكون غزة هي الوجهة.
في المقابل، دعت منظمات في السويد، إسبانيا، فرنسا، والنرويج إلى تنظيم قوافل بحرية جديدة، محذّرة من أن “السكوت على حصار غزة هو تواطؤ أخلاقي وإنساني”.
حتى لحظة كتابة هذا التقرير، تم احتجاز السفينة في ميناء أسدود، فيما تستمر الإجراءات الإسرائيلية تجاه النشطاء الثمانية، وسط غموض قانوني حول وضعهم. تشير التقارير إلى أن إسرائيل قد تُطلق سراحهم بعد “استجواب أمني”، لكنها لا تنوي إعادة السفينة، أو السماح لها بإكمال رحلتها إلى غزة.
ربما لم تصل “مادلين” إلى ميناء غزة، لكن رسالتها وصلت إلى عناوين الصحف، وفضحت من جديد كيف أصبح الحصار جزءًا من النظام العالمي، لا مجرد قرار إسرائيلي.
لقد كانت السفينة صغيرة، لكن وقعها كان كبيرًا، لأنها ببساطة قالت ما لم تقله الحكومات:
أن غزة ليست وحدها، وأن البحر ليس ملكًا للاحتلال.