كتبت : علياء الهواري
لم يكن فوز زهران كوامي مامداني بمنصب عمدة نيويورك حدثًا انتخابيًا عاديًا في الولايات المتحدة، بل لحظة فاصلة كشفت عن تغيّر في المزاج الأميركي، وعن صعود جيل جديد من السياسيين التقدميين الذين يتحدّون الرواية الإسرائيلية في قلب النظام الغربي ذاته.
ففي الوقت الذي عبّر فيه سفير إسرائيل في الأمم المتحدة داني دانون عن “قلق بالغ” من فوز مامداني بسبب “تصريحاته العدائية لإسرائيل”، كان كثيرون في واشنطن وتل أبيب يدركون أن هذا الشاب ذو الجذور الأوغندية–الهندية يمثل خطرًا سياسيًا ناعمًا: خطر الأفكار، لا السلاح.
وُلد زهران عام 1991 في أوغندا، ونشأ في بيت يجمع الفكر والفن:
والده هو المفكر المعروف محمود مامداني، أحد أبرز الأكاديميين المتخصصين في دراسات ما بعد الاستعمار، ووالدته المخرجة السينمائية العالمية ميرا ناير.
هاجرت العائلة إلى الولايات المتحدة، حيث درس زهران في كلية “Bowdoin” وحصل على بكالوريوس في الدراسات الإفريقية، قبل أن ينخرط في العمل الاجتماعي داخل أحياء الفقراء والمهاجرين في كوينز – نيويورك.
بدأ نشاطه السياسي من القاعدة، كمنظّم مجتمعي يدافع عن العدالة الاجتماعية والسكن اللائق وحقوق المهاجرين، ثم ترشّح عام 2020 لمجلس ولاية نيويورك عن الحزب الديمقراطي، ليصبح أول نائب اشتراكي مسلم في الولاية
ينتمي مامداني إلى التيار الاشتراكي الديمقراطي التقدّمي في الحزب الديمقراطي الأميركي، ويُعدّ من جناح اليسار الجريء الذي لا يخشى مواجهة اللوبيات الاقتصادية أو السياسية الكبرى.
من بين أبرز مشاريعه السياسية:
تجميد الإيجارات لحماية السكان من طرد جماعي بسبب ارتفاع الأسعار.
النقل العام المجاني باعتباره حقًا لا رفاهية.
رعاية الطفولة الشاملة ورفع الحد الأدنى للأجور إلى 30 دولارًا بحلول 2030.
ضرائب تصاعدية على الشركات الكبرى لتمويل الخدمات العامة.
لكن الأكثر إثارة للجدل هو موقفه الخارجي — تحديدًا من القضية الفلسطينية.
منذ بداياته، أعلن مامداني تأييده العلني لحركة المقاطعة وسحب الاستثمارات من إسرائيل (BDS)، واصفًا الاحتلال بأنه “نظام فصل عنصري بغطاء ديمقراطي زائف”.
وفي تصريحات له أثناء العدوان الأخير على غزة، قال:
“من غير الأخلاقي أن تصمت مدينة مثل نيويورك — موطن مئات الآلاف من العرب والمسلمين — أمام المجازر التي تُرتكب بأموال دافعي الضرائب الأميركيين.”
هذه المواقف جعلته في مرمى نيران اللوبي الصهيوني والإعلام اليميني، حتى وصفه بعض قادة إسرائيل بأنه “إسلامي جهادي صامت”، وهو توصيف يعكس حجم الرعب السياسي الذي يثيره مجرد وجوده في موقع مؤثر داخل مؤسسة أميركية بحجم بلدية نيويورك.
لماذا تخشاه إسرائيل؟
الرمزية:
لأول مرة يصل سياسي مسلم مؤيد علنًا لفلسطين إلى مركز تنفيذي رفيع في واحدة من أهم المدن الأميركية، وهو ما يشكل كسرًا لصورة “الحياد الأميركي” المزعوم تجاه الصراع.
التأثير الشعبي:
مامداني لا يتحدث من منطلق ديني أو قومي، بل بلغة الحقوق والعدالة، ما يجعله قادرًا على كسب جمهور غير عربي وغير مسلم داخل أميركا نفسها، وهو ما تعتبره إسرائيل أخطر أشكال المعارضة.
التمثيل الأخلاقي:
في زمن يبتلع فيه المال السياسي المواقف، يظهر مامداني كصوت نادر يربط العدالة الاجتماعية داخل أميركا بالعدالة الدولية في فلسطين، وهو خطاب يتبناه الجيل الأميركي الجديد المتعاطف مع الفلسطينيين.
الخوف من العدوى السياسية:
تل أبيب تدرك أن نجاحه قد يفتح الطريق أمام موجة من السياسيين التقدميين الرافضين لهيمنة اللوبي الصهيوني على السياسة الأميركية، خصوصًا داخل الحزب الديمقراطي
في الداخل الأميركي، أثار فوزه انقسامًا حادًا:
التيار اليساري رحّب به كرمز للتجديد والتمثيل المتنوع.
المحافظون وصفوه بـ“الشيوعي الإسلامي”، فيما اتهمه دونالد ترامب بأنه “يريد تحويل نيويورك إلى كوبا جديدة”.
لكن الملاحظة الأهم أن الجيل الشاب في المدن الكبرى يرى في مامداني انعكاسًا له: مهاجر، تقدّمي، صادق، لا يخشى الحديث عن فلسطين ولا عن الطبقة الفقيرة.
فوز مامداني ليس فقط انتصارًا انتخابيًا، بل إشارة لتغيّر في ميزان الخطاب الأميركي.
لأول مرة، يصبح الوقوف ضد إسرائيل ليس انتحارًا سياسيًا بل موقفًا مشروعًا في نظر شريحة واسعة من الشباب الأميركيين، خصوصًا بعد المجازر في غزة التي بثّتها الشاشات بلا توقف.
سياسي مثل مامداني لا يخيف إسرائيل لأنه يملك جيشًا، بل لأنه يملك قدرة على إقناع العالم بأنّ “الضمير الأميركي” بدأ يستيقظ.
إنه جرس إنذار لحكومات الاحتلال: العالم الذي منحكم الغطاء لعقود، بدأ يملّ منكم.
زهران مامداني ليس مجرد سياسي مسلم فاز في انتخابات بلدية؛ إنه تحوّل في الوعي السياسي الأميركي، وتذكير بأنّ الأجيال الجديدة في الغرب لم تعد ترى إسرائيل كضحية، بل كقوة استعمارية.
لهذا السبب تحديدًا، ترتجف منه تل أبيب، وتهاجمه نخبها، وتحاول شيطنته قبل أن يتكلم.
فكل خطاب يلقيه، وكل قرار يتخذه، هو انتصار رمزي لفلسطين داخل قلب النظام الأميركي.











