تقرير : علياء الهواري
في مشهد سياسي غير مسبوق في تاريخ الشرق الأوسط، باتت إسرائيل التي طالما تغنّت باستقلال قرارها وسيادتها تُدار اليوم من خارج حدودها. فبينما يُقدّم وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش اعتذارًا رسميًا للسعودية بعد تصريحات مسيئة، ويبعث بنيامين نتنياهو بإشارات تصالح تجاه قطر، تتكشف ملامح مشهد جديد عنوانه العريض: البيت الأبيض يضع يده على مفاتيح القرار في تل أبيب.
الأكثر دلالة أن الجمهور الإسرائيلي نفسه بدأ يصرخ في وجه حكومته: “أصبحنا دولة تحت الوصاية الأمريكية عبارة كانت تُقال في الماضي على سبيل المبالغة السياسية، لكنها اليوم أقرب إلى الحقيقة من أي وقت مضى.
مقابلة حصرية مع مجلة تايم الأمريكية، وضع الرئيس الأمريكي السابق والمرشح الأبرز للانتخابات المقبلة دونالد ترامب حدود اللعبة السياسية بوضوح نادر. قال ترامب حرفيًا:
“ضمّ الضفة الغربية لن يحدث، لأنني أعطيت كلمتي للدول العربية. وإذا قامت إسرائيل بذلك، فستخسر دعمنا بالكامل.”
وأضاف أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو “ليس لديه خيار سوى الموافقة على الخطة الأمريكية في غزة”، مؤكدًا أنه “لولا تدخلي، لكان العالم هو من أوقف نتنياهو، لأن شعبية إسرائيل تتراجع بشكل خطير”.
تصريحات ترامب هذه نُشرت في تايم وتايمز أوف إسرائيل، وأحدثت عاصفة سياسية في تل أبيب، حيث اعتبرتها المعارضة “دليلًا قاطعًا على أن القرار الإسرائيلي بات في جيب واشنطن
واشنطن تمسك بالخيوط: من السياسة إلى الجيش
في الأسابيع الأخيرة، كشفت وسائل إعلام عبرية وأمريكية متطابقة أن فريقًا أمريكيًا خاصًا من البيت الأبيض ووزارة الدفاع يجتمع بشكل دوري مع قادة الجيش الإسرائيلي لتنسيق المواقف في ملفات غزة والضفة.
التقارير تشير إلى أن البيت الأبيض لم يعد فقط يوجّه النصائح، بل أصبح يمارس حق الفيتو الفعلي على العمليات الميدانية الكبرى، خصوصًا تلك التي يمكن أن تُغضب العواصم العربية أو تُقوّض مشروع التسوية.
صحيفة معاريف العبرية وصفت ما يجري بأنه “أكبر تدخل أمريكي في السيادة الإسرائيلية منذ قيام الدولة”، فيما علّقت يديعوت أحرونوت بالقول: “إسرائيل فقدت توازنها بين الحليف والوصي”.
المشهد الراهن يشبه ما يمكن وصفه بـ“التأميم الأمريكي للسيادة الإسرائيلية”.
فكل المؤشرات تدل على أن واشنطن باتت تُقرّر:
متى تبدأ إسرائيل الحرب ومتى تنتهي.
ما هي حدود العمليات الميدانية.
ومن يُعتبر عدوًا ومن يُمنَح فرصة تفاوض.
حتى الملفات الاقتصادية والعلاقات الخارجية، كالتقارب مع السعودية أو قطر، تمرّ اليوم عبر البوابة الأمريكية.
المحلل السياسي الإسرائيلي شلومو بن عامي كتب في مقالة بصحيفة هآرتس أن “إسرائيل لم تعد تصنع قرارها، بل تُنفذ ما يُكتب لها في واشنطن بحرفية بيروقراطية مذهلة”، معتبرًا أن “ما يجري هو وصاية كاملة بثوب تحالف استراتيجي”.
في الداخل الإسرائيلي، تتصاعد الانقسامات بين اليمين القومي الذي يرى في الضفة “حقًا توراتيًا” يجب ضمّه فورًا، وبين جناح براغماتي بدأ يدرك أن واشنطن هي من تُحدد السقف السياسي لإسرائيل.
وسائل إعلام إسرائيلية رصدت موجة غضب داخل قواعد حزب “الليكود”، حيث يرى بعض أنصار نتنياهو أن “واشنطن سجنت إسرائيل داخل حدود الخطة الأمريكية”، بينما يرى آخرون أن “التحالف مع الولايات المتحدة لم يعد شراكة بل وصاية”.
حتى في الشارع، تتردد عبارات غير مألوفة مثل: “لم نعد نقرر متى نحارب ولا متى نُصالح… القرار يُصنع هناك في البيت الأبيض!”
تعتمد إسرائيل بشكل شبه كامل على الدعم الأمريكي في ثلاثة محاور رئيسية:
المساعدات العسكرية التي تتجاوز 3.8 مليار دولار سنويًا، وتشمل أحدث الأنظمة الدفاعية.
الغطاء الدبلوماسي في مجلس الأمن والمؤسسات الدولية، والذي يمنع أي إدانة رسمية لسياساتها.
الشرعية السياسية التي تستمدها من التحالف الأمريكي في مواجهة خصومها الإقليميين.
هذه الأدوات جعلت من واشنطن مركز تحكم فعلي في السياسة الإسرائيلية، بحيث يصعب على أي حكومة في تل أبيب تجاوز الخطوط الحمراء الأمريكية دون ثمن باهظ.
الوقائع على الأرض تشير إلى أن ما بدأ كتدخّل دبلوماسي، تحوّل اليوم إلى إدارة أمريكية مؤقتة للقرار الإسرائيلي، خاصة في ملفي غزة والضفة.
واشنطن باتت تُقرّر سقف الحرب، تُرسم خطوط التهدئة، وتُراقب من خلف الستار تحركات الجيش الإسرائيلي، في ظل تراجع واضح لاستقلال القرار السياسي في تل أبيب.
ما يجري اليوم ليس مجرد خلاف سياسي عابر، بل تحوّل جذري في بنية العلاقة بين تل أبيب وواشنطن.
إسرائيل، التي كانت يومًا توصف بأنها “حاملة الطائرات الأمريكية في الشرق الأوسط”، أصبحت اليوم غرفة عمليات تُدار من واشنطن.
قد يرى البعض في ذلك ضمانة للاستقرار، لكن في جوهره هو إعلان فقدان السيادة.
وإذا استمر هذا النهج، فإن إسرائيل التي قامت على فكرة “الاستقلال والتمرد على الوصاية” تجد نفسها اليوم في أكثر مراحلها تبعية وخضوعًا منذ تأسيسها.