كتبت: علياء الهواري
في زمنٍ تُقصف فيه الحقيقة قبل أن تُروى، جاء اغتيال الصحفي الفلسطيني صالح الجعفراوي ليفتح جرحًا جديدًا في جسد الصحافة الفلسطينية، ويطرح أسئلة مؤلمة عن من يملك القرار في الميدان، ومن يستفيد من إسكات الصوت الحر وسط فوضى السلاح والانقسام.
لم يكن الجعفراوي مجرّد مراسل ينقل الصورة، بل كان شاهدًا على تفاصيل الحرب ووجع الناس في غزة، وصوته ظلّ حاضرًا حتى اللحظة الأخيرة من حياته. لكن خلف رصاصة الغدر، بدأت تتكشّف روايات متعددة ومتشابكة، تتراوح بين الصراع الداخلي في القطاع وبين عمليات تصفية يُعتقد أنها مرتبطة بجهات أمنية تعمل في الظل.
مع استمرار الحصار وتداعيات الحرب الأخيرة، أصبحت غزة مسرحًا لعمليات ميدانية معقّدة، تتداخل فيها الأجهزة الأمنية المحلية، والقوى المسلحة، والعشائر، فضلًا عن تدخلات خارجية عبر قنوات غير رسمية.
المرحلة التي سبقت اغتيال الجعفراوي شهدت نشاطًا مكثفًا لمجموعات ميدانية كانت تُوصف بأنها “قوات خاصة” تابعة لأجهزة داخلية، قيل إنها تعمل على ضبط الأمن بعد انسحاب القوات من مناطق عدة في القطاع.
لكن الميدان — كما تروي مصادر محلية وشهود عيان — كان يغلي بتوترات بين هذه المجموعات، وظهرت على السطح خلافات داخلية حول السيطرة على مناطق نفوذ وممرات المساعدات الإنسانية.
وفقًا لشهادات ميدانية ومصادر متقاطعة تحدثت لعدة وسائل إعلام فلسطينية مستقلة، فإن صالح الجعفراوي كان يُغطي في الأيام الأخيرة تطورات ميدانية حساسة تتعلق بتوزيع المساعدات في مناطق شمال القطاع.
تؤكد بعض المصادر أن الجعفراوي وثّق في تقاريره الأخيرة حالة من الاحتكاك بين عناصر مسلحة محلية حول شحنات المساعدات، وهو ما وضعه — من دون قصد — في قلب دائرة صراع لا علاقة له بها.
وبعد يومين فقط من نشره تقريرًا مصورًا عن سوء توزيع المعونات، تعرّض أثناء وجوده في الميدان إلى إطلاق نار مباشر، أدى إلى استشهاده على الفور.
مصادر طبية أكدت أن طبيعة الإصابة تشير إلى استهداف دقيق من مسافة قريبة، ما يُرجّح فرضية “الاغتيال المتعمّد” أكثر من “النيران العشوائية”.
تداولت منصات محلية عبر مواقع التواصل أسماء شخصيات ميدانية قيل إنها كانت مكلفة بإدارة أمن بعض المربعات في غزة خلال مرحلة إعادة الانتشار الأمني الأخيرة.
تُشير هذه المنشورات إلى شخص يُدعى ياسر أبو شباب، وذراعه الأيمن غسان دهيني، وهما — وفق ما يُنشر — يقودان مجموعة قوامها نحو 300 عنصر، من بينهم مقاتلون من عشائر متعددة أبرزها عشيرة الدغامشة.
ورغم أن هذه الأسماء لم تُؤكد رسميًا من أي جهة فلسطينية، فإن تداولها الواسع يثير تساؤلات حول مسؤولية من يدير فعليًا المشهد الأمني في بعض مناطق القطاع بعيدًا عن الأطر الرسمية.
بحسب ما نقلته مصادر إعلامية، اندلعت مواجهات خلال الأيام الأخيرة بين هذه المجموعات وبعض سكان المناطق الشمالية، عقب مقتل الجعفراوي، ما أدى إلى عمليات ملاحقة واعتقالات ميدانية شملت عشرات الأفراد يُشتبه بتورطهم في صراعات داخلية.
بينما كانت الميادين تشتعل، دخلت القنوات العبرية — خاصة القناة 12 والقناة 13 — على الخط، لتقدم الحادثة في إطار مختلف تمامًا، زاعمة أن ما يجري في غزة هو “حرب داخلية بين الفصائل”.
تلك الرواية تلقفتها حسابات إسرائيلية ومؤثرون أجانب على مواقع التواصل، في محاولة لتشويه الصورة ونزع الطابع الوطني عن دماء الصحفيين الذين يُقتلون وهم يؤدون واجبهم المهني.
الأخطر أن بعض الحسابات العربية — بقصد أو دون قصد — ساهمت في إعادة نشر هذه السردية دون تدقيق، وهو ما اعتبره محللون “جزءًا من حرب نفسية إسرائيلية تهدف إلى زعزعة ثقة الجمهور الفلسطيني بإعلامه”.
نقابة الصحفيين الفلسطينيين نعت الشهيد الجعفراوي في بيان رسمي، مؤكدة أن اغتياله “جريمة مكتملة الأركان تندرج ضمن مسلسل استهداف الصحفيين في الأراضي الفلسطينية”.
وطالبت النقابة بفتح تحقيق ميداني مستقل لكشف ملابسات الحادث، وتحديد المسؤولين عن اغتياله، خاصة مع تضارب الروايات حول الجهة المنفذة.
كما دعا الاتحاد الدولي للصحفيين إلى إرسال بعثة تقصّي حقائق إلى غزة، معتبرًا أن “استمرار الإفلات من العقاب في جرائم قتل الصحفيين يُهدد حرية الإعلام في المنطقة بأكملها”.
اغتيال الجعفراوي ليس حادثًا معزولًا، بل جزء من مشهد معقّد يتقاطع فيه الأمن بالسياسة بالإعلام.
ففي بيئة يسودها الغموض الميداني والانقسام الداخلي، تصبح الكلمة الحرة هدفًا سهلًا.
التحقيقات الميدانية تشير إلى أن الجعفراوي ربما كان يمتلك معلومات أو تسجيلات عن تجاوزات في إدارة المساعدات، ما جعله في مرمى من لا يريدون أن تُكشف الحقائق.
لكن البعد الأعمق يكمن في استراتيجية التشويش الإسرائيلي، التي تسعى دومًا إلى تضخيم أي صراع داخلي فلسطيني لإظهار المجتمع الغزي كأنه يعيش في “فوضى دائمة”، تمهيدًا لتبرير استمرار الحصار أو التدخل الأمني المباشر مستقبلًا.
بين الرصاصة التي أسكتت صوت صالح الجعفراوي، وبين الصمت الذي يلفّ التحقيق في مقتله، تقف الحقيقة معلّقة تنتظر من يجرؤ على كشفها.
في زمنٍ أصبح فيه الصحفي هدفًا مثل المقاتل، تبدو معركة الوعي أخطر من أي معركة أخرى.
يبقى السؤال مفتوحًا أمام كل من يراقب ما يجري في غزة:
هل سنعرف يومًا من قتل صالح الجعفراوي؟
أم ستُدفن الحقيقة كما دُفن هو، تحت ركام الحرب وضجيج الروايات المتضاربة؟