كتبت: علياء الهواري
في ظلّ دخان الحرب الذي لم يتبدّد بعد، ووسط أنقاض البيوت التي تحكي وجع غزة، تدور في الأفق مفاوضات جديدة بين حركة حماس والاحتلال الإسرائيلي، ترعاها أطراف دولية وإقليمية بجهود حثيثة لإنهاء نزيف الدم الفلسطيني.
لكن في الشارع، ما زالت الأسئلة تُطرح بإلحاح: هل هذه المفاوضات تحمل بارقة أمل حقيقية، أم أنها مجرّد هدنة مؤقتة تمهّد لجولة جديدة من الألم؟
في هذا الحوار، يفتح الصحفي الفلسطيني يوسف مهنا قلبه وعدسته لواقع الشارع في غزة والضفة الغربية، ليرصد ملامح المزاج الفلسطيني بعد سنوات من الحرب والحصار، ويكشف عن رؤية صريحة لطبيعة هذه المفاوضات ومآلاتها المحتملة.
كيف يقرأ الشارع الفلسطيني في غزة والضفة هذه المفاوضات؟ وهل هناك شعور بأنها قد تُفضي إلى تغيير حقيقي؟
يقول مهنا:
الشارع الفلسطيني ينظر إلى المفاوضات الجارية بين حماس وإسرائيل بنظرة متباينة بين الأمل والحذر. في قطاع غزة، يعيش الناس حالة من الترقب الممزوج بالقلق. هناك ترحيب نسبي بأي خطوة يمكن أن توقف شلال الدماء والتهجير والمعاناة، لكن لا أحد يثق بجدية الاحتلال الإسرائيلي في الالتزام بالاتفاقات، استنادًا إلى تجارب سابقة انتهت بخيبات وأبرزها التصعيد الذي شهدناه في مارس 2025 بعد إعلان الهدنة الأولى.
أما في الضفة الغربية، فتسود أجواء تحليل سياسي أكثر من التفاؤل، إذ يرى المواطنون أن المفاوضات قد تكون حاسمة فقط إذا أفضت إلى مسار سياسي واضح يضمن الحقوق الفلسطينية كاملة.
هل تعبّر المفاوضات عن الإرادة الفلسطينية فعلاً، أم أنها تُدار بضغط إقليمي ودولي؟ ومن المستفيد من استمرارها؟
يجيب مهنا بوضوح:
هذه المفاوضات لا تعبّر بالكامل عن الإرادة الفلسطينية، بل جاءت كضرورة إنسانية عاجلة لوقف الإبادة المستمرة في غزة. الضغوط الدولية والإقليمية كانت العامل الحاسم في انطلاقها، أكثر من أي توافق داخلي بين القوى الفلسطينية.
فقد مارست الولايات المتحدة ومصر وقطر ضغوطًا كبيرة على الأطراف بعد تفاقم الكارثة الإنسانية، فيما لعبت مصر الدور الأبرز في جمع المتفاوضين وصياغة التفاهمات، مستندة إلى ثقلها الإقليمي وعلاقاتها المتشابكة مع واشنطن وتل أبيب وحماس.
أما المستفيد الفعلي، كما يرى، فهو الاحتلال الإسرائيلي الذي يسعى لتهدئة الميدان دون تقديم تنازلات سياسية حقيقية، بينما تبقى الفصائل الفلسطينية في موقف الدفاع الإنساني والسياسي معًا.
كيف انعكست المفاوضات على حياة الناس اليومية في غزة؟ وهل يلمسون أي بوادر انفراج؟
من داخل غزة، يمكن القول إن الناس تنفّسوا الصعداء مع سماع أنباء وقف إطلاق النار، لكن الواقع ما زال قاسيًا. فالحصار لم يُرفع، والمعابر لا تعمل إلا جزئيًا، والمساعدات تصل ببطء لا يلبي الحد الأدنى من احتياجات السكان.
بدأت بعض العائلات بالعودة إلى منازلها المهدّمة جزئيًا، لكن الدمار الواسع ونقص الخدمات الأساسية – من كهرباء ومياه ومرافق صحية – يجعل العودة للحياة الطبيعية شبه مستحيلة حتى الآن.
بعبارة أخرى، المفاوضات منحت الناس راحة مؤقتة من القصف، لكنها لم تمنحهم حياة حقيقية بعد.
كيف تتعامل وسائل الإعلام الفلسطينية مع ملف المفاوضات؟ وهل هناك حرية في تناول المواقف المختلفة؟
يشرح مهنا:
وسائل الإعلام الفلسطينية تتعامل مع الملف بقدر من الواقعية الممزوجة بالحذر. التركيز الأكبر في التغطية يكون على الجهود السياسية لإنهاء الحرب وتخفيف المعاناة، مع الابتعاد عن طرح أسئلة محرجة قد تثير الانقسام أو توحي بتنازلات.
في الواقع، هامش الحرية محدود نسبيًا، فالمناخ السياسي والإعلامي يعيش تحت ضغط الحرب والانقسام. لذلك، فإن الخطاب الإعلامي يميل إلى تهيئة الشارع لتقبّل المرحلة المقبلة، أكثر من كونه مساحة للنقاش المفتوح.
ورغم ذلك، لا تزال هناك أصوات مستقلة وشجاعة تحاول كسر الصمت وطرح أسئلة الوعي الوطني، لكنها تبقى قليلة وسط ضجيج السياسة والدم.
من وجهة نظرك، ما السيناريو الأقرب للواقع؟ تسوية مؤقتة أم بداية مرحلة سياسية جديدة؟
الواقع يميل أكثر نحو تسوية مؤقتة هدفها تهدئة الميدان وإعادة ترتيب الأوراق، لا أكثر. فحتى اللحظة، لا توجد مؤشرات حقيقية على تحول سياسي جذري أو بداية مرحلة جديدة تعيد رسم المشهد الفلسطيني.
النية نحو حلّ شامل لم تتبلور بعد، والصورة العامة لا تزال ضبابية. الجميع يتحدث عن “الهدوء” لا عن “التحرر”، وعن “إعادة الإعمار” لا عن “إنهاء الاحتلال”.
ولذلك، يرى الشارع الفلسطيني أن هذه المفاوضات قد توقف الحرب مؤقتًا، لكنها لن تفتح أبواب الحرية بعد.
ما رسالتك للجيل الفلسطيني الشاب الذي فقد ثقته بالمفاوضات والسياسة؟
يرد مهنا بنبرة واقعية ممزوجة بالأمل:
جيل الشباب اليوم هو الأكثر وعيًا والأكثر ألمًا. فقد نشأ بين الحصار والقصف، ورأى كيف تحوّلت الوعود إلى خيبات متكررة، وكيف صارت “المبادرات السياسية” غطاءً لمزيد من الدماء.
لكن رغم الإحباط، لا يمكن الاستسلام. فاستعادة الثقة تبدأ بالفعل لا بالكلام، وبوجود قيادة صادقة ووحدة وطنية حقيقية تلتزم بالثوابت وتتعامل بذكاء مع الواقع.
الشباب لا يبحثون عن شعارات ولا يريدون حربًا بلا نهاية، إنما يطالبون بـ كرامة وحرية وحياة كريمة في وطنهم — وهذه حقوق مشروعة لا يمكن أن تُمنح بل تُنتزع بالوعي والإرادة.
بين الحذر والأمل، يعيش الفلسطينيون اليوم لحظة فارقة في تاريخهم. المفاوضات قد تُطفئ نار الحرب مؤقتًا، لكنها لا تُنهي جرحها المفتوح منذ عقود.
الشارع الفلسطيني لا يريد سلامًا مزيفًا ولا حربًا أبدية، بل يبحث عن حياة طبيعية فوق أرضه، تحت سماء لا تمطر صواريخ، وبين جدران لا تهدمها آلة الاحتلال.
كما قال الصحفي يوسف مهنا في ختام حديثه:
“القضية ليست مفاوضات أو هدنة… إنها معركة وعي ووجود.
فإما أن نحيا بكرامة، أو نبقى رهائن انتظارٍ لا ينتهي