كتبت: علياء الهوارى
في خضم الحرب المستمرة على قطاع غزة، لم يكن المدنيون وحدهم ضحايا آلة الحرب الإسرائيلية، بل دفع الصحفيون هم أيضًا أثمانًا باهظة، حين تحولت الكاميرا إلى سلاح خطر قد يساوي صاحبه بالهدف العسكري. ومع تراكم الأرقام والصور، أصبح واضحًا أن “الحقيقة” نفسها تُستهدف، وأن كل مراسل يحمل كاميرته أو دفتره الميداني، صار مشروع شهيد.

الصحفيون في مرمى النيران
بحسب بيانات لجنة حماية الصحفيين CPJ ومنظمات دولية أخرى، فإن الحرب الأخيرة على غزة أسفرت عن استشهاد أكثر من 150 صحفيًا وإعلاميًا منذ بدايتها. هذه الحصيلة غير مسبوقة في النزاعات الحديثة، وتُعد الأكبر منذ بدء توثيق استهداف الصحفيين عالميًا.
اللافت أن العديد من هؤلاء الشهداء كانوا في قلب الميدان: مراسلون ميدانيون، مصورون صحفيون، تقنيون في غرف الأخبار، وحتى متعاونون مستقلون ينقلون للعالم صورًا وأصواتًا من قلب المأساة.
أسماء تحولت إلى رموز
لم يعد أنس الشريف، إسماعيل الغول، محمد قريقع، حمزة الدحدوح، وحسام شبات مجرد أسماء في قوائم إحصائية، بل رموزًا لقصص إنسانية ومهنية. هؤلاء الصحفيون لم يغادروا مواقعهم رغم المخاطر، وظلوا ينقلون الحدث من قلب الميدان حتى اللحظة الأخيرة.
الكثير منهم استُشهد مع كامل طاقمه، كما حدث مع قريقع الذي غادر الشاشة إلى الأبد بعد دقائق من ظهوره في نشرة الأخبار. المشهد يعكس حجم المخاطرة التي يتعرض لها الصحفيون، حيث يمكن أن تتحول لحظة النقل المباشر إلى لحظة وداع.
لماذا يُستهدف الصحفيون؟
التحليل الحقوقي والسياسي يطرح أكثر من تفسير:
موقع الصحفيين الميداني: وجودهم الدائم قرب المستشفيات، أماكن القصف، وأحياء المقاومة، يجعلهم عرضة للخطر المباشر.
الاستهداف المتعمد: منظمات حقوقية مثل “هيومن رايتس ووتش” و”مراسلون بلا حدود” أشارت في تقاريرها إلى أن بعض الضربات ضد الصحفيين لا يمكن تبريرها بكونها “أضرارًا جانبية”، بل بدت وكأنها عمليات قتل ممنهج لإسكات الصوت الناقل.
الحرب على السردية: في زمن الإعلام الرقمي، لم يعد الصراع فقط على الأرض، بل أيضًا على الرواية. الصحفيون في غزة كانوا يُفندون الرواية الإسرائيلية بالصور المباشرة، وهو ما يجعل وجودهم مصدر إزعاج حقيقي لآلة الحرب.
التضييق مقابل التضحية
الحرب الأخيرة أبرزت أيضًا هشاشة وضع الصحافة العربية والدولية في غزة. معظم القنوات العالمية اعتمدت على متعاونين محليين لا يملكون وسائل حماية ولا بنية دعم متكاملة، في حين أبقت بعض المؤسسات الإعلامية مكاتب ثابتة وطواقم معتمدة. هذه الفجوة جعلت بعض الطواقم أكثر عرضة للاستهداف المباشر.
وفي كل الأحوال، يبقى القاسم المشترك أن العمل الصحفي داخل غزة صار مرادفًا للتضحية، وأن المهنة نفسها باتت محاطة بخطر الإبادة.
الاستهداف المتكرر للصحفيين دفع الأمم المتحدة، الاتحاد الأوروبي، ونقابات الصحفيين العالمية إلى المطالبة بالتحقيق الفوري في هذه الجرائم. الأمين العام للأمم المتحدة أكد أن “قتل الصحفيين جريمة حرب”، فيما طالبت منظمات دولية بإحالة الملفات إلى المحكمة الجنائية الدولية.
لكن على أرض الواقع، لم يظهر حتى الآن ما يضمن حماية الصحفيين أو يوقف نزيف الاستهداف، لتبقى المطالبات في خانة البيانات الرسمية.
صورة أكبر من مجرد قناة أو مؤسسة
الجدل حول أن معظم الشهداء ينتمون إلى طواقم قناة واحدة أو أكثر، لا يقلل من الحقيقة الأوسع: أن الصحفيين كفئة كاملة مستهدفون، بغض النظر عن مؤسساتهم. سواء كانوا من الجزيرة، أو العربية، أو وكالات دولية، أو حتى أفراد يعملون بشكل مستقل، فالمصير واحد: مواجهة آلة حرب لا تميز بين حامل السلاح وحامل الكاميرا.
ما يغيب أحيانًا وسط الضجيج هو أن هؤلاء الصحفيين ليسوا فقط “ناقلين للحدث”، بل آباء وأمهات وأبناء. بعضهم استُشهد مع أسرته، وبعضهم ودّع أطفاله عبر اتصال قصير قبل أن يسقط الصاروخ. هذه التفاصيل الصغيرة تذكّرنا أن وراء كل صورة تصلنا من غزة حياة كاملة كانت تُعاش، وأُطفئت فجأة.
التضامن مع الصحفيين الشهداء لا يعني تبني مواقف سياسية، بل يعني الدفاع عن قيمة إنسانية أساسية: حق العالم في المعرفة. حين يُقتل الصحفي، لا يُستهدف فرد فقط، بل يُستهدف الحق الجمعي في الحقيقة.
ومن هنا، يصبح لزامًا على كل المؤسسات الإعلامية، والنقابات، والمنظمات الحقوقية أن توحّد صوتها للمطالبة بالعدالة للصحفيين، وأن تضع آليات ضغط دولية تمنع إفلات الجناة من العقاب.
ضرورة تأمين ممرات آمنة للصحفيين في مناطق النزاع.
تعزيز التعاون بين المؤسسات الإعلامية لتوفير دعم وحماية للطواقم المحلية.
الاستثمار في تقنيات النقل عن بُعد لتقليل المخاطر على المراسلين.
توثيق كل انتهاك بحق الصحافة كجزء من ملفات جرائم الحرب
غزة لم تكشف فقط عن مأساة إنسانية بحق المدنيين، بل أيضًا عن مأساة موازية بحق الصحفيين الذين ارتضوا أن يكونوا عيون العالم. استشهادهم لا يمكن اعتباره مجرد “أضرار جانبية”، بل هو جرح في ضمير الإنسانية، ورسالة صارخة بأن الحقيقة في زمن الحروب تُدفع ثمنًا بالدم.
إن التضامن مع الصحفيين الشهداء هو تضامن مع جوهر الحرية نفسه، ومع حق كل إنسان على هذه الأرض أن يعرف، وأن يرى، وأن يسمع، دون أن تُقصَف الكاميرا قبل أن تنقل الصورة.










