"صيف تحت القماش".. حين تتحول الخيمة إلى قدر لا عطلة فيه

تقرير : علياء الهواري
بينما تمتلئ الشواطئ بالصور، وتتنافس المدن على جذب السائحين، هناك أماكن لا تعرف شيئًا من رفاهية الصيف سوى لهيب حرّه.
في مخيمات اللاجئين الممتدة من لبنان إلى سوريا، ومن غزة إلى الأردن، يُختزل الصيف في خيمة لا تقي من الشمس، وطفلٍ يحلم بمروحة، لا بمنتجع.
فهذا الصيف، كما كل صيف، يمرّ ثقيلًا على من لا يملكون تذكرة سفر، ولا حتى نافذة على نسمة هواء.
في هذا التقرير، نُسلّط الضوء على صيف اللاجئين… حيث لا إجازة، ولا شاطئ، فقط خيمة وأمل هشّ.

في مخيم “عين الحلوة” جنوب لبنان، تستيقظ أم حسن كل يوم قبل طلوع الشمس لتملأ دلاء الماء قبل أن تنقطع الكهرباء.
“بعد الساعة 9 الصبح، ما بنقدر نقعد جوّا الخيمة”، تقول وهي تمسح العرق عن جبين حفيدها.
“الحرّ بيقتل، وريحة البلاستيك بتخنق”.
الخيام المصنوعة من القماش المشمّع لا تقي من الحرارة، بل تحبسها.
في منتصف النهار، تصل درجات الحرارة داخل الخيمة إلى أكثر من 45 درجة مئوية، مما يجعلها بيئة خطرة خصوصًا على الأطفال وكبار السن.
بالنسبة للأطفال في المخيم، الصيف لا يعني نزهات أو ألعاب مائية، بل وقت أطول في الشارع، وحالات جفاف متكررة.
تقول “رُبى”، فتاة في الثانية عشرة من عمرها من مخيم “جرش” في الأردن:
“صحباتي في المدرسة بيحكوا عن سفر وسباحة، وأنا بضلني بالبيت، بنتمنى بس كهربا تيجي حتى نقدر نشغل المروحة”.
العطلة المدرسية هنا تحوّلت إلى عبء على الأمهات اللواتي لا يعرفن كيف يشغلن وقت أولادهن في مساحة ضيقة، بلا ألعاب، بلا حدائق، بلا أنشطة.
في غزة، صيف اللاجئين له طابع أكثر قسوة.
فالأزمة ليست فقط في المخيم، بل في المدينة كلها. لكنّ مخيمات مثل “الشاطئ” و”البريج” تحكي مأساة مضاعفة.
“ما عندنا كهربا، وما عندنا مَيّ، ومش قادرين حتى نشتري تلج”، يقول أبو العبد، لاجئ في الشاطئ.
“بتحس حالك بتغلي، والجيران نفس الشي، مفيش حدا مرتاح”.
مع ارتفاع البطالة إلى أكثر من 50%، لا يجد معظم اللاجئين أي فرصة للهروب من حرّ الصيف، إلا بالسهر في الأزقة، أو النوم على الأسطح.
الحرارة العالية في المخيمات لا تضر فقط بالجسد، بل تنهك الروح أيضًا.
الضغط النفسي يزداد مع انعدام الخصوصية، وشحّ الموارد، وانعدام الأفق.
تقول أخصائية اجتماعية تعمل في “مخيم برج البراجنة” في بيروت:
“الصيف بيكون موسِم الانفجارات النفسية. حالات العنف الأسري بتزيد، وحالات الاكتئاب، خصوصًا بين النساء”.
وتضيف: “الأطفال بيفقدوا أي شعور بطفولتهم. الصيف عندهم مش فسحة، الصيف اختبار للبقاء”.
في شوارع صيدا، يقف “محمد” – لاجئ فلسطيني – ليبيع الخضار بعربة صغيرة تحت شمس أغسطس.
يقول: “ما بشتغل، ما بأكل. ما في خيار”.
محمد، 14 سنة، لا يعرف شيئًا عن البحر، رغم أنه يعيش على بعد كيلومترين منه.
“ما عنديش طقم يخليني أنزل عالبحر”، يقول بخجل.
كثير من أطفال اللاجئين يُجبرون على العمل في الصيف لمساعدة عائلاتهم، بعضهم في ورش النجارة، وبعضهم في بيع المياه الباردة، وبعضهم في التسكع بحثًا عن أي شيء
حين تأسست هذه المخيمات، كانت الخيام مؤقتة.
لكن السنوات الطويلة جعلتها مدنًا بلا بنية تحتية، بلا شبكات صرف صحي، ولا مساحات آمنة.
“الخيمة صارت قدر”، يقول أحد المسنين في مخيم نهر البارد، “بناتنا عم تتزوج داخل هالخيمة، وولادهم عم ينولدوا فيها… ما عاد مؤقت، صار دائم”.
الصيف، هنا، هو تذكير بأن الزمان ثابت، والمكان لا يرحم، وأن اللجوء ليس حالة انتقالية، بل امتداد لقهر مستمر.
رغم كل هذا، لا تجد هذه المعاناة مكانًا في نشرات الأخبار أو صفحات الإنستغرام.
فالمخيمات “لا تليق بالتصوير”، إلا وقت الحرب أو الزلازل أو المساعدات.
“نحن غير مرئيين”، تقول شابة فلسطينية من مخيم مار الياس، “ولا أحد يسمعنا إلا إذا بكينا بصوتٍ عالٍ”.
لكنّ اللاجئين لا يطلبون الشفقة، بل الاعتراف.
الاعتراف بأنهم بشر، يستحقون العيش، والهواء، والماء، والراحة الصيفية مثل غيرهم.
قد يمر الصيف، وتعود المدارس، وتنسى الكاميرات زوايا المخيم، لكنّ حرارة هذه الأشهر تبقى عالقة في صدور اللاجئين، لا تغادرهم.
فاللجوء لا يأخذ إجازة، والفقر لا يتوقف في أغسطس، والكرامة لا تذوب في العرق.
صيف اللاجئين هو مرآة عالمٍ فشل في إنهاء معاناتهم، واحتجزهم داخل خيمة، ثم نسيهم هناك.
لكنهم، رغم كل شيء، يصرخون بلا صوت: نحن هنا… نعيش.