وثائقية

دكتور يوسف سراج مافودة يكتب قراءة في ((التاريخ العام للدول العربية الأفريقية

كتب : احمد صابر

يُعد كتاب ((التاريخ العام للدول العربية الأفريقية)) أول عمل صيني صخم يتناول بشكل شامل تاريخ الدول العربية في أفريقيا، ويُعرّفه تعريفًا علميا منهجيًا من خلال ((فهم التغيرات من القديم إلى الحاضر)). ولفترة طويلة، تفتقر الدراسات الصينية في الدول العربية بأفريقيا إلى نظام أكاديمي ناضج ونموذج نظري فسدَّ هذا العمل العلمي ذلك الثغر. وتتمثل المساهمة الأكاديمية لـ ((التاريخ العام)) في جعل تناوب العصور وتغير الأحوال في تلك البلدان كمحور الدراسة واعتبار معاملة الحضارات ومبادلتها كبعد النظر والبحث وعلى هذا الأساس تم اجراء الدراسة للتطور التاريخي والثقافي والتغيرات الاجتماعية ونمط الحياة وتكوين الهوية وغيرها بتلك البلدان على مدى عصور طويلة. كما من منظور مفاهيم البحث والابتكار النظري، نجد المؤلف يركز على الأحداث الكبرى من العصور القديمة إلى الحاضر ويولي الاهتمام للخصائص المرحلية والإقليمية للتطور التاريخي لتلك البلدان في فترات مختلفة، فحقق الاتساق بين نقاط البحث وجوانب الدراسة ونجح في وضع سياق واضح. ومن منظور استخدام المصادر والمراجع، نجد أنه لم يقصر على المصادر والمراجع باللغة الإنجليزية مثل ما في كتب الأخرين، بل اعتمد أيضًا على المصادر والمراجع العربية والفرنسية والروسية وغيرها.

ويولي ((التاريخ العام)) الاهتمام بالاختيار الدقيق لبعض القضايا التي هي الأقرب إلى الواقع ويمكن أن يكشف بها جوهر الأمور حتى يبنى عليها تحليل التطور التاريخي لتلك البلدان حيث ((يمكن لهذه القضايا أن تعكس بشكل أساسي وبصفة عميقة صورةً واضحة منفردة لتلك المجتمعات والسياسات والاقتصاديات والثقافات بتلك البلدان في الفترات المختلفة مما يتم تسليط الضوء على سياق التطور التاريخي ومساره لتلك البلدان. ففي تحليل قضية التوترات الاجتماعية الناتجة عن السياسات القبلية مثلا، قد وصف ((التاريخ العام)) بالتفصيل تطور العشائر والمنظمات القبلية في تلك البلدان، كما ولى أيضًا اهتمامًا خاصًا بالعلاقات بين القبائل والحكومات المركزية، وركز على كيفية تنمية وعي المواطنة وتكوين الهوية الوطنية في المجتمعات التي تهيمن عليها التقاليد القبلية وثقافاتها.
كما يعدّ المؤلف الحكم الأجنبي المتكرر الذي فتّت البيئة السياسية والثقافية وأثر في نفسية المواطن عاملاً مهمًا في دراسة تاريخ الدول العربية الإفريقية وكانت أفريقيا وقعت تحت الغزوات الأجنبية لفترات طويلة، كما وقع في الاستعمار الظالم من قبل القوى الغربية في العصر الحديث ولم يغفل الباحث عن ذلك فتعرض لقضية إفساد الحكم الأجنبي لبيئة صالحة لنمو النخب السياسية المحلية، وتشكيل ذلك الحكم الأجنبي للاتجاهات الاجتماعية الجديدة، وتأثيره على حياة الناس اليومية.
ثانيا، تم وصف المشهد التاريخي لتطور الحضارات المتنوعة للدول العربية الإفريقية
تعتبر علاقة الحضارة بالتاريخ وعلاقة التاريخ بالدولة من موضوعات أكاديمية كبرى. وذلك بأن عملية المعاملة البشرية هي عملية تشكيل الحضارات لتاريخها وبهذا صارت علاقة تاريخ الحضارة بتاريخ الدولة علاقة ملازمة حيث يقف أحدهما على الأخر، فصارت الدولة علامة لنمو الحضارة وحاملها ورمزها. وعلى هذا الأساس اتخذ المؤلف ((المنظور التاريخي للحضارة)) طريقا لدراسة التاريخ العام وسعى جاهدا لعرض تلك الحضارات وتطورها ومسيرة التاريخ المتواكبة لذلك التطور الحضاري من جوانب شتى.
الجانب الأول: التركيز على شرح تعاقب الحضارات وتغيرها في شمال أفريقيا قبل العصر الإسلامي.
كانت شمال أفريقيا منذ فترة طويلة منطقة مركزية لمعاملة الحضارات مبادلتها، وقد ساهمت في تطوير تاريخه الطاقة القوية المُتكثفة الناجمة من عملية المعاملة والمبادلة والمداخلة بين مختلف الحضارات. فعليه قسم المؤلف تطور الحضارات القديمة بشمال أفريقيا إلى ثلاث فترات، منها فترة التأثير القوي للحضارة المصرية القديمة حيث شكلت خطاً رئيسياً متميزاً في تطور تاريخ شمال أفريقيا القديم. ومنها فترة العصر الهلنستي، حيث كان للحضارات اليونانية والقرطاجية والرومانية القديمة تأثير عميق على شمال أفريقيا. ومنها فترة توسع المسيحية المبكرة في شمال أفريقيا، فأصبحت الأفكار المسيحية ثقافة سائدة من حوض نهر النيل إلى قرن أفريقيا، فيرى المؤلف أن “تجمع الحضارات المتعددة وتصادمها ودمجها وتعاقبها ُشكل صورةً رائعةً للتطور التاريخي لشمال أفريقيا القديم، ووفر مصدراً لا غنى عنه ودلائل مهمة لدراسة تاريخ شمال أفريقيا القديم.
الجانب الثاني: التركيز على الدراسة لإعادة تشكيل التاريخ الأفريقي من قبل الحضارة العربية الإسلامية.
تعتبر الفتوحات الإسلامية في القرن السابع الميلادي نقطة التحول لتاريخ شمال أفريقيا حيث أسلم من بهذه المناطق من العرب والبربر غيرهم حتى وتعزز بمن جاء بعد قرون من الأتراك المسلمين، وبفضل هذا بدأت منطقة شمال أفريقيا عملية الأسلمة والتعريب بطرق مختلفة واستمرت قرونا وعصورا. فلم يحل الإسلام بسهولة وبساطة محل الديانات المحلية والمسيحية في شمال أفريقيا فحسب، بل مر بمراحل طويلة وبخطوات بطيئة لعملية التوافق المتبادل فتناول المؤلف هذه الظاهرة كعقدة تاريخية رئيسية. فعلى سبيل المثال، يركز المؤلف في تاريخ مصر على كيفية ممارسة مصر لنظام الولاة، وهي كولاية تابعة للإمبراطورية العربية تحت الحكم الإسلامي، وكيفية التنسيق بين التحولات السياسية والإصلاحات الاجتماعية في نماذج الحوكمة الاقتصادية، وكيفية تحقيق التكامل الثقافي ودمجها بعد تصادمها وتضاربها؛ وأشار المؤلف إلى أنه كيف وُضعت موارد مصر في الخزانة الإمبراطورية تحت حكم الإمبراطورية العثمانية، وكيف تم التحول العمراني للقاهرة، كما كيف تمت شعبية الثقافة الإمبراطورية التي تمثلها المقاهي في مصر.
الجانب الثالث: التركيز على عرض أثر التبادلات الحضارية على سمات الدولة
تعدّ المعاملة التاريخية أحد الأشكال الأساسية للوجود الإنساني وتطوره، وهي أيضًا عملية تاريخية للاكتشاف المتبادل والتواصل والتفاهم بينهم. فأي جماعة بشرية أو أية حضارة إذا أرادت البقاء طويلًا يجب عليها الحفاظ على سمة الانفتاح وذلك لضمان تطور القوى الإنتاجية وتجمع الإنجازات الحضارية واستمرارها في تبادلات واسعة النطاق.
وقد أثبت تاريخ الدول العربية الأفريقية أن المعاملة الحضارية هي القوة الدافعة للتقدم الاجتماعي والتطور التاريخي حيث تتميز الدول العربية الأفريقية بتنوع كبير من ناحية البيئة الجيوسياسية والتقاليد التاريخية والتنمية الاجتماعية، بمعنى أن لها تلك السمات الاجتماعية التي تتحلى بها الدول العربية كما لا تخلو من الخصائص الثقافية الأصيلة التي تتصف بها الدول الأفريقية ولا من المعاني الفريدة المرتبطة بالتشابك. فاتخذ المؤلف المعاملة الحضارية مفتاحًا لتفسير التاريخ، وعرض تقلبات الصور التاريخية والخصائص الاجتماعية والثقافية لتلك الدول من خلال تبادل الحضارات المتعددة وتصادمها وتكاملها واستبدال بعضها بعضا. مثلا ركز المؤلف في تاريخ المغرب على الموقع الجغرافي المتميز للها، حيث يقع عند ملتقى أوروبا وأفريقيا وأوقيانوسيا والبحر الأبيض المتوسط،كما أنه أقرب دولة إلى أوروبا في القارة الأفريقية، فأصبحت منذ العصور القديمة، ملتقىً الحضارات المتعددة للمعاملة والمبادلة، مما ساهم في تشكيل ثقافة المغرب الاجتماعية التي تجمع بين سمات المغارب العربي وأفريقيا وأوروبا. وكذلك ليبيا حيث لها تأثير ملحوظ في العالم العربي، وهي تقع بين العالم العربي وأفريقيا والبحر الأبيض المتوسط.
ثالثا، تم تسليط الضوء على مسيرة الدول العربية الإفريقية في استكشافها لعملية التحديث
يهتم المؤلف بالرصد والملاحظة: كيف أصبح التوجه التحديثي الغربي رؤية سائدة للنخب السياسية في الدول العربية بأفريقيا، وكيف تتغذى عوامل الحداثة في هذه القارة الأفريقية التي تتجمع بها الحضارات وتلتقي بها الثقافات، وكيف تنمو وتتطور في البيئة الاجتماعية الشرقية النموذجية. فجعل المؤلف قضايا التحديث موضوعا رئيسيا في تاريخ الدولة القومية. ومنذ النصف الأول من القرن التاسع عشر، انطلقت الدول العربية في رحلة التحديث وكانت سلسلة الإصلاحات التي أجراها محمد علي حاكم مصر الممثل عن الجيل الجديد من حكامها هي بمثابة استجابة إيجابية لرد تحديات الغرب ويمكن اعتبارها محاولة مبكرة للتحديث، كما يمكن اعتبارها نقطة تحول كبيرة في تاريخ مصر، حتى أشاد بها علماء الغرب أنها ((أنقذت مصر من مستنقع الاستبداد الذي خنقها لقرون عديدة)). ولا يقتصر المؤلف في تاريخ مصر على تحليل كيفية استئصال محمد علي للقوات المملوكية، وإلغاء نظام الضرائب، وتشجيع الثورة الزراعية، وإطلاقه للتصنيع، وتشجيعه للإصلاحات العسكرية والثورات الاجتماعية والثقافية، بل يدرس أيضًا الفجوة بين نموذج التحديث الذي اختاره محمد علي وما يريده المجتمع المصري، ويستكشف أسباب فشله والدروس المستفادة منه. وفي الوقت نفسه، لم يغفل عن كيفية تخلّي الأجيال اللاحقة عن إرث محمد علي السياسي.
بعد الحرب العالمية الثانية، كانت جميع الدول العربية الحديثة الاستقلال بشمال أفريقيا جعلت تحقيق التحديث هدفها المسعى فسعت للبحث عن طريق التنمية الوسطية بين الرأسمالية والاشتراكية. وأصبحت الاشتراكية العربية خيارا سائدا لتحديث الدول العربية الأفريقية حيث سيادة الفكر الاشتراكي العربي بشمال أفريقيا الذي هو الأساس الأيديولوجي لهذا الخيار. واستعارت الاشتراكية العربية خطاب الاشتراكية العلمية ومفاهيمها للتعبير عن الفكر الإسلامي العربي، وعارضت الإلحاد بصراحة، ورفضت الاشتراكية العلمية، واعتقدت أن مبدأ المساواة وروح التعاون في التعاليم الإسلامية التقليدية هما الاشتراكية نفسها.
ويركز المؤلف على عرض مختلف أشكال الاشتراكية العربية الأفريقية، فولى الاهتمام في تاريخ مصر بالمنطق النظري والنظام الأيديولوجي للناصرية وأثرها على شمال أفريقيا. وألفت النظر في تاريخ الجزائر إلى المفاهيم السياسية والاقتصادية لـاشتراكية الإدارة الذاتية القائمة على نظام الإدارة الذاتية، وخاصةً إصلاحات التحديث في عهد أحمد بن بلة وزمن هواري ومدين، بالإضافة إلى الاضطرابات السياسية والتراجع الاقتصادي الناجم عن التدخل العسكري في الفترة الانتقالية. وانتبه المؤلف في تاريخ تونس إلى الاشتراكية الدستورية التونسية وإقامة نظام دستوري، محللاً مخطط التحديث وإنجازاته ونكساته. وتسلط الضوء في تاريخ ليبيا على القومية الثورية الليبية وبناء المُثُل الأعلى للاشتراكية الإسلامية، وصياغة معمر القذافي للسياسة الوطنية، وممارسة التحديث بما يتجاوز القومية. وأبرز المؤلف في تاريخ الصومال موضوع ممارسة الاشتراكية للرئيس محمد سياد بري وحربه على الولاء للعشيرة، ويولي اهتمامًا خاصًا لصراع أمراء الحرب والأزمة الإنسانية والورطة الاجتماعية في حقبة ما بعد محمد سياد بري.
ومن منتصف الخمسينيات إلى منتصف السبعينيات، لم تكتفِ الدول العربية الأفريقية بتفسير الاشتراكية العربية وفقًا لمفهومها الخاص، بل طبقت أيضًا إصلاحات تحديثية في بلدانها. وقد حققت مصر والجزائر وتونس ودول أخرى نتائج جيدة. إلا أن هذه الفترة لم تدم طويلًا. فمع التغيرات الجذرية في أوروبا الشرقية وتفكك الاتحاد السوفيتي السابق، بدأ يتراجع الفكر الاشتراكي العربي،كما أُحبطت محاولات التحديث بالدول العربية الأفريقية.
وبعد الاشتراكية العربية، صارت حركة الصحوة الإسلامية السائدة بشمال أفريقيا والثورات العربية التي شهدها القرن الجديد محورا لهذا الكتاب. إلا أن التجربة التاريخية تُشير إلى أن مصير الدول العربية الأفريقية يكون بأيديها. فما دام نهر النيل لم ينضب، لن ينتهي التاريخ، ولن تتوقف وتيرة السعي وراء رفاهية الدولة القومية، كما يقول المثل العربي الكلاب تنبح، والقافلة تسير!
وأخيرا نرى أن مثل كتاب التاريخ العام للدول العربية الأفريقية يُثري الباحثين بأفكارٍ قيّمة وتنويرٍ عميق. وإن وجدت المؤاخذة فهي أن تاريخ جيبوتي و تاريخ جزر القمر لم يفيا بأسلوب التاريخ العام بصورة جيدة وذلك لقلة المصادر والمراجع والمعلومات المعتمدة.كما يؤسفنا عدم التعرض الواسع للمعاملة والمبادلة الحضارية بين الصين والدول العربية بشمال أفريقيا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى