بقلم : د. ميرفت ابراهيم
في عالم يتسارع فيه التقدم التكنولوجي، يبرز الذكاء الاصطناعي (AI) كقوة دافعة للابتكار، واعدًا بتحويل جذري لحياة البشر. من بين أبرز تطبيقاته الواعدة، يبرز دوره المحوري في دعم وتمكين ذوي الإعاقات المختلفة، فاتحًا آفاقًا جديدة من الاستقلالية، الدمج، والمشاركة الفعالة في المجتمع. لم يعد الحديث عن الذكاء الاصطناعي مجرد خيال علمي، بل هو واقع ملموس يغير حياة الملايين، ويقدم حلولًا مبتكرة للتحديات التي يواجهها الأشخاص ذوو الإعاقة. وتتجسد هذه الجهود على أرض الواقع، حيث تبذل العديد من المؤسسات والجمعيات مساعي حثيثة لتفعيل هذا الدور، كما هو الحال في دولة قطر.
جهود قطرية رائدة في دعم الذكاء الاصطناعي لذوي الإعاقة

تولي دولة قطر اهتمامًا كبيرًا لدعم وتمكين ذوي الإعاقات، وتتجلى هذه الجهود في مبادرات عديدة. على سبيل المثال، تبذل الجمعية القطرية لتأهيل ذوي الاحتياجات الخاصة، بقيادة المدير التنفيذي الأستاذ أمير الملا، جهودًا حثيثة لدعم المنتسبين والأعضاء من ذوي الإعاقة. تسعى الجمعية باستمرار لتوفير أحدث التقنيات والبرامج التي تساهم في تحسين جودة حياتهم وتعزيز استقلاليتهم.
وفي إطار هذه الجهود، نظمت الجمعية محاضرة مجانية قدمتها الدكتورة ميرفت إبراهيم، متخصصة في مجال الذكاء الاصطناعي، لشرح تطبيقات الذكاء الاصطناعي الداعمة للإعاقة. وقد شهدت المحاضرة نقاشًا تفاعليًا ومثمرًا بين أعضاء الجمعية، مما أتاح فرصة لتبادل الخبرات والاستفسارات. كان من أبرز نتائج هذه المحاضرة هي إتاحة الفرصة للحضور لتجربة برامج عملية مثل “Be My Eyes” و “Seeing AI”، وهي تطبيقات مبتكرة تعتمد على الذكاء الاصطناعي لمساعدة الأشخاص ذوي الإعاقات البصرية. تأتي هذه المحاضرة ضمن مبادرة “صوتك قوة” التطوعية للدكتورة ميرفت إبراهيم، مما يعكس التزامها بنشر الوعي والمعرفة حول كيفية استغلال الذكاء الاصطناعي لخدمة هذه الفئة الهامة من المجتمع.



تحديات متنوعة وحلول ذكية
تتسم الإعاقات بالتنوع الكبير، وتشمل الإعاقات البصرية، والسمعية، والحركية، والإدراكية، والنفسية، وغيرها. كل نوع من هذه الإعاقات يفرض تحديات فريدة تتطلب حلولًا مخصصة. هنا يأتي دور الذكاء الاصطناعي ليقدم طيفًا واسعًا من الحلول المبتكرة:
- للإعاقات البصرية: يوفر الذكاء الاصطناعي تقنيات تحويل النص إلى كلام، مما يسمح للأشخاص المكفوفين وضعاف البصر بالوصول إلى المعلومات المكتوبة بسهولة. تطبيقات التعرف على الصور والأشياء تمكنهم من فهم البيئة المحيطة بهم، تحديد العملات، قراءة الملصقات، وحتى التعرف على الوجوه. النظارات الذكية المزودة بتقنيات الذكاء الاصطناعي يمكن أن تصف المشاهد المحيطة، وتوفر إرشادات للتنقل، وتساعد في تجنب العوائق، مما يعزز استقلاليتهم بشكل كبير.
- للإعاقات السمعية: تعمل تقنيات تحويل الكلام إلى نص على تمكين الأشخاص الصم وضعاف السمع من متابعة المحادثات والمحاضرات بشكل فعال، سواء عبر الهواتف الذكية أو الأجهزة اللوحية. كما تساهم أنظمة التعرف على لغة الإشارة المدعومة بالذكاء الاصطناعي في تسهيل التواصل بين الأشخاص الذين يستخدمون لغة الإشارة والآخرين، مما يكسر حواجز التواصل ويعزز الدمج الاجتماعي. تطبيقات التنبيه البصري المدعومة بالذكاء الاصطناعي يمكن أن تحول الأصوات الهامة (مثل جرس الباب أو إنذار الحريق) إلى إشارات مرئية أو اهتزازية، مما يضمن سلامتهم.
- للإعاقات الحركية: يمكن للذكاء الاصطناعي أن يدعم الأشخاص ذوي الإعاقة الحركية عبر أنظمة التحكم الصوتي والإيماءات، مما يسمح لهم بالتحكم في الأجهزة الإلكترونية، الكراسي المتحركة الذكية، وحتى أذرع الروبوت المساعدة. تقنيات التنبؤ بالحركات وتحسين الأداء الحركي، المدعومة بالذكاء الاصطناعي، تساهم في تصميم أطراف اصطناعية ذكية ومتقدمة تتكيف مع احتياجات المستخدم. كما أن الروبوتات المساعدة المدعومة بالذكاء الاصطناعي يمكن أن تقوم بمهام يومية مثل فتح الأبواب، جلب الأشياء، أو المساعدة في المهام المنزلية، مما يعزز الاستقلالية ويقلل من الاعتماد على الآخرين.
- للإعاقات الإدراكية والنفسية: يقدم الذكاء الاصطناعي حلولًا لدعم الأشخاص الذين يعانون من تحديات إدراكية أو نفسية. يمكن لتطبيقات الجدولة والتذكير الذكية أن تساعد في تنظيم المهام اليومية، بينما توفر برامج التدريب المعرفي المدعومة بالذكاء الاصطناعي تمارين لتحسين الذاكرة، التركيز، ومهارات حل المشكلات. كما يمكن للذكاء الاصطناعي أن يلعب دورًا في تحليل أنماط السلوك وتقديم تنبيهات مبكرة للمرضى، مما يساعد في إدارة حالات مثل التوحد أو الاكتئاب، وتوفير الدعم النفسي عبر برامج المحادثة (Chatbots) التي تقدم استشارات وتوجيهات أولية.
ما وراء الحلول الفردية: نحو مجتمع أكثر شمولاً
لا يقتصر دور الذكاء الاصطناعي على تقديم حلول فردية، بل يمتد ليشمل بناء مجتمعات أكثر شمولاً ومراعاة لذوي الإعاقات. فمن خلال تحليل البيانات الضخمة، يمكن للذكاء الاصطناعي أن يساعد في: - تحسين البنية التحتية: تحديد المناطق التي تفتقر إلى إمكانية الوصول، وتصميم مساحات حضرية أكثر ملاءمة.
- تطوير التعليم الشامل: تصميم برامج تعليمية مخصصة تتكيف مع احتياجات كل طالب، وتقديم أدوات مساعدة للتعلم.
- تسهيل التوظيف: مساعدة ذوي الإعاقات على اكتشاف فرص العمل المناسبة، وتقديم الدعم في عملية التوظيف.
- تعزيز البحث والتطوير: تسريع وتيرة البحث في مجال الإعاقة، واكتشاف علاجات وابتكارات جديدة.
التحديات والآفاق المستقبلية
على الرغم من الإمكانيات الهائلة للذكاء الاصطناعي، إلا أن هناك تحديات يجب معالجتها. تشمل هذه التحديات قضايا الخصوصية والأمان، وضمان عدم تضخيم التحيزات القائمة في البيانات، وتوفير الوصول العادل إلى هذه التقنيات لجميع الأفراد، بغض النظر عن وضعهم الاجتماعي والاقتصادي. يتطلب ذلك تعاونًا وثيقًا بين الحكومات، المطورين، المنظمات غير الربحية، والأشخاص ذوي الإعاقة أنفسهم لضمان أن يكون تطوير الذكاء الاصطناعي شاملًا ومراعيًا لاحتياجات الجميع.
في الختام، يمثل الذكاء الاصطناعي ثورة حقيقية في حياة ذوي الإعاقات. فهو ليس مجرد أداة تكنولوجية، بل هو جسر يربطهم بالعالم، ويمكنهم من تحقيق إمكانياتهم الكاملة، ويساهم في بناء مجتمع أكثر عدلاً، شمولاً، وإنسانية. ومع استمرار تطور هذه التقنيات، فإن الآفاق المستقبلية لتمكين ذوي الإعاقات تبدو مشرقة، واعدة بمستقبل تزول فيه الحواجز، وتتحقق فيه المساواة للجميع.











