بقلم : محمد الساحه ( الباحث في الشؤون السياسية والقضايا المجتمعية )
يُعد تعزيز الاستراتيجية الوطنية للحفاظ على الهوية الوطنية المصرية: طريقنا نحو التماسك والانتماء
في ظل ما يشهده العالم من تغيرات متسارعة على كافة الأصعدة ، باتت قضية الحفاظ على الهوية الوطنية أمرًا حيويًا لمستقبل الشعوب واستقرارها، وفي مصر الدولة ذات التاريخ الضارب في أعماق الحضارة، لم تكن هذه القضية بعيدة عن اهتمام القيادة السياسية وصانعي القرار، حيث أطلقت الدولة المصرية استراتيجية وطنية متكاملة تهدف إلى تعزيز الهوية الوطنية وترسيخ قيم الانتماء والمواطنة في نفوس الأجيال الجديدة ، في مواجهة تحديات العولمة والانفتاح الرقمي والاختراق الثقافي ، وتُعد جزءًا أساسيًا من رؤية الدولة لتحقيق التنمية الشاملة والمستدامة، وهي تقوم على مجموعة من المحاور والتوجهات التي تهدف إلى تعزيز الانتماء، وترسيخ القيم الأصيلة، ومواجهة التحديات الثقافية والفكرية التي تهدد النسيج المجتمعي المصري.
وتعتبر الهوية الوطنية المصرية : هي نتاج لتراكمات حضارية وثقافية ممتدة منذ آلاف السنين.
وهي هوية متعددة الأبعاد تجمع بين الإرث الفرعوني، والقبطي ، والإسلامي ، والعربي ، والأفريقي ، وقد شكّلت هذه الخلفية المتنوعة مصدر قوة وتنوع ثقافي للمجتمع المصري، لكن في المقابل، أصبحت عرضة للاستهداف من قبل بعض التيارات الفكرية، والوسائل الإعلامية ذات التوجهات المضللة، مما فرض ضرورة صياغة استراتيجية متماسكة تعيد الاعتبار للهوية وتضمن استمراريتها.
- أهداف الاستراتيجية الوطنية للحفاظ على الهوية الوطنية المصرية :
تسعى الاستراتيجية الوطنية للحفاظ على الهوية المصرية إلى تحقيق مجموعة من الأهداف الجوهرية، أبرزها :
• تعزيز الانتماء الوطني وبناء وعي جماهيري بقيمة الوطن وتاريخه ومستقبله.
• غرس القيم المجتمعية الأصيلة مثل التسامح، التعاون، الانضباط، واحترام الآخر.
• مواجهة الغزو الثقافي والتطرف الفكري، وحماية المجتمع من التأثيرات الهدامة والهوية البديلة.
• ترسيخ القيم الأخلاقية والمجتمعية كجزء لا يتجزأ من الهوية.
• ربط الأجيال الشابة بجذورها التاريخية والثقافية، وتنمية حس المسؤولية لديهم.
• الاستثمار في القوى الناعمة المصرية كالفن والثقافة والتعليم لتعزيز الانتماء. - التحديات التي تواجه الهوية الوطنية :
رغم ما تحقق إلا أن هناك عدة تحديات قائمة تستلزم تضافر الجهود لمواجهتها ومن أهمها:
• الانتشار الواسع للمحتوى الأجنبي غير المنضبط ثقافيًا عبر الإنترنت.
• تفكك الروابط الأسرية نتيجة تغير أنماط الحياة ، مما أثّر على تربية الأبناء بالقيم.
• ضعف الثقافة العامة والمعرفة التاريخية لدى بعض شرائح الشباب، وتراجع القراءة والمعرفة.
• الاستقطاب السياسي والديني في فترات سابقة، مما أثّر على وحدة الهوية.
• سيطرة القيم المادية على حساب القيم الروحية والوطنية. - أهم محاور تنفيذ الاستراتيجية مع إبراز التوصيات والمقترحات :
في قطاع التعليم / الإصلاح التعليمي وربط المناهج بالهوية :
لا يمكن ترسيخ الهوية الوطنية دون تعليم يعزز المعرفة بالتاريخ والثقافة الوطنية ، ولهذا جاء تطوير المناهج الدراسية ليشمل موضوعات عن الحضارة المصرية، وثقافة التنوع، والمواطنة، إلى جانب تعزيز مهارات التفكير النقدي والاحترام المتبادل ، وذلك على النحو التالى :
• إدماج موضوعات الهوية في المناهج : تعزيز تدريس التاريخ الوطني ، وقصص الرموز المصرية المؤثرة في مختلف المراحل الدراسية.
• التوسع في الأنشطة المدرسية ذات البعد الوطني: كالمسابقات الثقافية، الرحلات إلى المواقع الأثرية، والمشروعات البحثية عن الحضارة المصرية.
• تدريب المعلمين على التربية الوطنية : إعداد برامج تنمية مهنية للمعلمين حول ترسيخ الهوية والقيم الوطنية لدى الطلاب.
في قطاع الإعلام / دور الإعلام في تشكيل الوعي :
وسائل الإعلام تمثل إحدى أخطر أدوات التأثير، ومن ثمّ وجّهت الدولة إلى إنتاج محتوى إعلامي هادف يعكس القيم المصرية ويواجه الثقافة السطحية والسلوكيات الدخيلة ، و مواجهة المحتوى الهدام والشائعات التي تضعف الانتماء الوطني ، وتم دعم الدراما الوطنية التي تبرز بطولات الجيش والشرطة، وتاريخ الشخصيات المصرية الملهمة ، وذلك من خلال تطبيق التالى:
• إنتاج محتوى إعلامي هادف وموجه للشباب : تقديم أعمال درامية ووثائقية تبرز الهوية المصرية، وتسلّط الضوء على النماذج الوطنية الناجحة.
• مراقبة المحتوى الإعلامي والمنصات الرقمية: مكافحة المحتوى الموجه الذي يروّج لقيم دخيلة أو يضعف الانتماء الوطني.
• إطلاق حملات توعوية إعلامية منتظمة: مثل حملة “اعرف بلدك”، “فخور بهويتك”، لنشر الوعي العام لدى فئات المجتمع كافة.
في قطاع الثقافة والفنون / إحياء الثقافة والتراث :
تعمل الدولة على تطوير وتفعيل دور قصورالثقافة والمكتبات العامة و دعم الصناعات الثقافية والتراثية ، الحفاظ على الآثار واللغة العربية وتعزيز الفنون الأصيلة ، وتنظيم الفعاليات التي تُحيي التراث الشعبي، والفن الأصيل، مع التركيز على الهوية البصرية للمدن المصرية وربطها بهويتها التاريخية مثلما حدث في مدينة الأقصر وأسوان والقاهرة التاريخية ، وذلك من خلال :
• دعم الفنون الشعبية والتراثية : رعاية فرق الفنون والمهرجانات الثقافية التي تُبرز التنوع الثقافي في مصر.
• إحياء التراث في القرى والنجوع: عبر الأنشطة في قصور الثقافة والمراكز الشبابية التي تحيي العادات المصرية الأصيلة.
• تعزيز الهوية البصرية للمحافظات: ربط كل مدينة أو محافظة بعناصر من تراثها وتاريخها في التصميم والبناء والمظهر العام.
في قطاع الأسرة والمجتمع :
• تفعيل دور الأسرة كمصدر رئيسي للقيم : من خلال حملات توعية وتدريب للأمهات والآباء عبر الإعلام والمجتمع المدني.
• إشراك المجتمع المدني : دعم الجمعيات التي تعمل على تعزيز الثقافة والوعي الوطني ، خاصة في المناطق الريفية والمهمشة.
• إقامة ندوات ومبادرات مجتمعية : تجمع بين كبار السن والشباب لتبادل الخبرات والقيم وتعزيز الترابط بين الأجيال.
دور المؤسسات الدينية في تعزيز الهوية الوطنية :
يمثل الأزهر الشريف والكنيسة القبطية دعامتين أساسيتين للهوية المصرية المتسامحة ، وقد حرصت الدولة على دعم دورهما في نشر الخطاب المعتدل ، ومواجهة التطرف والانقسام الطائفي ، وتعزيز الوحدة الوطنية ، كما يتم تفعيل وتعزيز دور الحفاظ على الهوية الوطنية من خلال دراسة تطبيق التالى :
• تجديد الخطاب الديني بما يدعم الانتماء: عبر خطب الجمعة، ودروس الكنيسة، التي تعزّز القيم الوطنية وروح التسامح.
• توحيد الرسالة الوطنية بين الأزهر والكنيسة : للتأكيد على مفهوم المواطنة كجزء لا يتجزأ من الهوية الدينية والوطنية.
في قطاع الشباب والرياضة :
• إطلاق برامج شبابية وطنية : تشمل المخيمات والورش والمعسكرات التي تربط الشباب بتاريخهم وهويتهم.
• دعم المبادرات الشبابية الوطنية : مثل المبادرات التي تستخدم وسائل التواصل لنشر محتوى ثقافي وتاريخي مصري.
• استخدام الرياضة كأداة لتعزيز الانتماء: ربط البطولات الرياضية برسائل الهوية والولاء الوطني.
دور مؤسسات المجتمع المدني :
يُعد المجتمع المدني شريكًا رئيسيًا في تنفيذ الاستراتيجية، خاصة عبر المبادرات التي تستهدف الأطفال والشباب في المحافظات والقرى للتعريف بالهوية المصرية ، دعم المبادرات الشبابية التي تحيي التراث وتُعلي القيم الوطنية ، وتم إطلاق عدة برامج مثل: “أنت مصري”، و”اعرف تاريخك”، و”شباب قادر” بهدف توعية الأجيال بقيمة هويتهم.
على مستوى السياسات العامة :
• تنسيق مؤسسي فعال بين الجهات المعنية : من خلال لجنة وطنية دائمة لمتابعة تنفيذ الاستراتيجية تضم وزارات التعليم، الثقافة، الإعلام، الشباب، والأوقاف.
• إعداد مؤشرات قياس دورية: لقياس مدى التقدم في تعزيز الهوية الوطنية بين فئات المجتمع.
• تطوير تشريعات داعمة للهوية : مثل قوانين تحمي اللغة العربية ، وتحفّز الإنتاج الثقافي الوطني ، وتكافح التشويه الثقافي.
- نماذج ومبادرات على أرض الواقع ، من أبرز ما يدعم هذه الاستراتيجية :
• مبادرة “حياة كريمة” التي تسعى لتطوير القرى وتعزيز العدالة الاجتماعية، وهي خطوة مهمة لترسيخ الشعور بالانتماء خاصة لدى سكان الريف.
• عام الثقافة المصرية – الصينية 2024 كمثال على التفاعل الدولي الذي لا يذيب الهوية بل يعزز مكانتها عالميًا.
• إطلاق مشروع الهوية البصرية لمحافظات مصر ( كما في الأقصر والعلمين الجديدة ) لربط المدن بجذورها التاريخية.
• إطلاق عام الشباب المصري وعقد مؤتمرات الشباب ، وتفعيل الحوار بين الأجيال ، وكذلك أيضا تمكين الشباب في كل المجالات السياسية والعملية وغيرها وفي إشراك الشباب في المشروعات التنموية وتعزيز دورهم في بناء المجتمع، وهو ما يعزز الشعور بالانتماء
وفي ختام قولنا وليس بأخر فإن الحفاظ على الهوية الوطنية المصرية لم يعد ترفًا فكريًا، بل ضرورة أمن قومي تضمن بقاء الدولة قوية وموحدة في مواجهة محاولات العبث بالوعي ، إن الهوية ليست شيئًا نحفظه في الكتب، بل منظومة حية تنمو وتتطور وتترسخ عبر العمل، والتعليم، والثقافة، والفن، والمشاركة المجتمعية.
فإن بناء الإنسان المصري وفق قيمه الأصيلة وتاريخه العريق هو الطريق الحقيقي للتقدم ، ولا شك أن الاستراتيجية الوطنية التي تبنتها الدولة تمثل خطوة محورية نحو إعادة صياغة وجدان الشعب وربط مستقبله بجذوره الحضارية.