اراء ومقالات

رحلة تأملية في التاريخ: من العلمين إلى تشونغتشينغ… تحويل ذكريات المعاناة إلى جسور السلام

مقالة للكاتبة الصينية : لين يان

قالت الكاتبة لين يان الصحفية بوكالة أنباء الصين “شينخوا” فى مقالة لها :

قبل ثلاثة عشر عاما، وطئتْ قدماي أرض متحف العلمين في مصر، حيث وقفتُ أمام نموذج مصغّر يجسد معارك الحرب العالمية الثانية في شمال أفريقيا. هناك، شاهدت مجسمات من الدبابات الرملية وهي تسير على طاولة عملاقة، وكأنها تسرد بصمت مهيب، ملحمة كُتبت بالنار والدم. حينها، قال لي المرشد السياحي بصوت يملؤه الاعتزاز: “هذا المتحف ليس نصبا تذكاريا لأبطال مصر فحسب، بل هو تحية إجلال لكل إنسان حمل راية الحرية على كتفيه. فكل روح استُشهدت في سبيل الحرية، تستحق أن تُخلّد في سفر التاريخ”.
وفي العام الماضي، سنحت لي الفرصة لزيارة نصب النصر في حرب المقاومة الشعبية الصينية ضد العدوان الياباني، الكائن في وسط بلدية تشونغتشينغ. إنه معلم معماري شامخ، مشيد من الخرسانة المسلحة على هيئة عمود ثماني الأضلاع، تعلوه قبة معدنية، ويبلغ ارتفاعه الإجمالي 27.5 مترا. وقد زُوِّد الجزء العلوي من النصب بأربع ساعات ذات أجراس تدق الوقت تلقائيا بانتظام، كأنها تذكّر سكان هذه المنطقة النابضة بالحياة بأن السلام الذي ينعمون به اليوم لم يأتِ بسهولة.
من رمال النوبة التي احتضنت دبابات الحلفاء في صحراء مصر، إلى جبال كونلون في الصين حيث ترددت أصداء الرصاص، ظلت جراح الحرب تنزف بينما بقي السلام ينبض كنبض القلب. وفي هذا العام، بينما تُطل علينا الذكرى الثمانون لانتصار الحق على الظلام، وتجسد الأمم المتحدة ثمانين عاماً من مسيرة الإنسانية نحو العدالة، لا يزال سؤال التاريخ يطرح نفسه: كيف نحوّل ذكريات المعاناة إلى جسور تربط بين الماضي والمستقبل؟
في تلك الأيام الحالكة من الحرب، حمل الشعب الصيني على كاهله أوجاع أمة بأسرها. سالت دماؤه الذهبية كالنهر لتروي حصون الصمود، حتى بزغت شمس التحرير من خلف سحب الاحتلال. وفي شمال أفريقيا، وقفت مصر شامخة كجبل صامد، حيث علَّق البروفيسور هو ده كون، الأستاذ في قسم التاريخ بجامعة ووهان في الصين، على ذلك قائلا إنه من الناحية الإستراتيجية، كانت القاهرة المركز التنسيقي الإستراتيجي لقوات الحلفاء في الشرق الأوسط، ومركز الإمداد والمحور الجوي لهم. ومن الناحية السياسية، كانت مصر السبّاقة في قطع العلاقات الدبلوماسية مع دول المحور، والانضمام إلى التحالف العالمي المناهض للفاشية، ودعم عملية تأسيس الأمم المتحدة. أما من الناحية العسكرية، فقد قامت القوات المصرية بالدفاع عن الوطن، وحماية قناة السويس، كما شاركت في توفير الظروف الملائمة لعبور مئات الآلاف من جنود قوات الحلفاء.
لقد قدّمت الصين إلى جانب مصر وسائر الدول العربية مساهمات جوهرية في ترسيخ دعائم الاستقلال الوطني في مرحلة ما بعد الحرب وفي صون السلام العالمي. ولم تكن الملحمة الصينية-العربية مجرد تحالف عابر في سجل التاريخ، بل كانت سيمفونية متكاملة من الإيمان العميق بالعدالة. في قاهرة عام 1943، حين التقى ثلاثة قادة عظماء (من الصين والولايات المتحدة وبريطانيا)، كُتب إعلان القاهرة بحبر من نور، صائناً حقوق الشعب الصيني كجزء من معادلة التحرير العالمي. وفي عام 1945، حين وقّع مندوبو الصين على ميثاق الأمم المتحدة، حملت تلك الخطوة القانونية في طياتها بذور تحرر الشعوب العربية والعالمية من قيود الاستعمار.
اليوم، لا تزال الأمم المتحدة، مع بلوغها عامها الثمانين، تحمل هموم العالم: ففي جنوب السودان تُداوي جراح الحرب، وفي غزة، تحمل مياه الحياة إلى أطفال يكابدون وطأة الحصار. ومع ذلك، يُطل الشر مجددا بوجوه متعددة: فالطائرات المسيّرة تمزق سماء مناطق الصراع بين روسيا وأوكرانيا، وأطفال غزة يصطفون أمام مراكز توزيع المساعدات وهم يحملون الأواني الفارغة أملا في الحصول على حصص من الطعام.
كما قال الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش بحكمة إن التعاون الدولي ليس خياراً، بل ضرورة تاريخية. وفي هذا السياق، برزت الصين كفارس يحمل راية التعاون: ففي هذا العام، يُحتفل بالذكرى الخامسة والثلاثين لمشاركة الصين في عمليات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وعلى مدار هذه السنوات، أسهمت الصين بفعالية في مراقبة وقف إطلاق النار، وتحقيق الاستقرار، وحماية المدنيين، وتوفير الحماية الأمنية، ودعم العمليات اللوجستية في مناطق تواجد البعثات الأممية. وعلى مدى 35 عاما من العطاء، شاركت الصين بشكل فاعل في عمليات حفظ السلام الأممية، حيث أرسلت أكثر من 50 ألف فرد، وامتدت مساهماتها إلى أكثر من 20 دولة ومنطقة حول العالم.
وفي الوقت نفسه، تتحرك الدول العربية بنشاط أيضا، حيث أعلنت مصر خلال قمة عربية طارئة عُقدت في مارس 2025 اعتماد “خطة إعادة إعمار وتنمية قطاع غزة”، التي تبدأ بعملية الإغاثة العاجلة والتعافي المبكر وصولا إلى إعادة بناء القطاع، مؤكدة أن الخطة تحفظ للشعب الفلسطيني حقه في إعادة بناء وطنه وتضمن بقاءه على أرضه. ومن جانبها، تدعم جامعة الدول العربية جهود إعادة إعمار سوريا ما بعد الحرب، ومواجهة التهديدات الأمنية في لبنان، وتحقيق السلام في السودان، إضافة إلى دعم العمليات السياسية في ليبيا واليمن. وتقف وراء هذه الجهود روح مكافحة الفاشية المتوارثة، وكذلك السعي إلى التجسيد المعاصر لمبادئ ميثاق الأمم المتحدة.
وحين نقف في عام 2025 متأملين التاريخ، يجب علينا أن نغتنم فرصة الذكرى الثمانين لتأسيس الأمم المتحدة للحفاظ على سلطتها ومكانتها، وتطبيق التعددية الحقيقية، وحث جميع الدول على الالتزام بأهداف ومبادئ ميثاق الأمم المتحدة. فقد أشار وزير الخارجية الصيني وانغ يي إلى أنه في مواجهة تغيرات جذرية لم يسبق لها مثيل منذ قرن، “ينبغي علينا الدفاع عن التاريخ الذي سُطر بالدماء والأرواح… والتكاتف للحفاظ على النظام الدولي الذي تأسس بعد الحرب العالمية الثانية، والدعوة إلى عالم متعدد الأقطاب متساوٍ ومنظم، وتعميق التعاون ضمن منصات متعددة الأطراف مثل منظمة شانغهاي للتعاون ومجموعة بريكس، ورفع صوت تضامن واستقلالية الجنوب العالمي عاليا، متقدمين نحو هدف بناء مجتمع ذي مستقبل مشترك للبشرية”. وفي هذا السياق، تبرز مقولة تاريخية شهيرة تقول: “السلام ليس تنازلاً من الضعفاء، بل هو شجاعة من الأقوياء”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى