من رماد الهولوكوست إلى نيران الاحتلال: كيف تحوّل الضحايا إلى جلادين؟

بقلم :علياء الهوارى
في تاريخ البشرية، لا تكاد توجد جريمة ترتقي في وحشيتها إلى مستوى ما حدث في “الهولوكوست” — الإبادة الجماعية التي ارتكبها النازيون بحق اليهود خلال الحرب العالمية الثانية. ومع أن هذه المأساة سُجلت كوصمة في جبين الإنسانية، فإن الوجه الآخر لها، والذي قلما يُناقش، هو كيف استُخدم هذا الحدث المؤلم ليُشرعن لاحقًا احتلالًا آخر، وتأسيس دولة مارست الاضطهاد على حساب شعب أعزل، هو الشعب الفلسطيني.
ما بين عامي 1939 و1945، قُتل ما يُقدَّر بستة ملايين يهودي في أوروبا، في عمليات ممنهجة شملت معسكرات الموت، والمجاعات القسرية، والتجارب الطبية اللاإنسانية. كانت هذه الكارثة، بكل مقاييسها، صدمة للضمير العالمي. لكنها في الوقت ذاته، تحوّلت إلى أداة وظّفتها الحركة الصهيونية لبناء مشروعها القائم على فكرة “الدولة اليهودية”، التي لم يكن لها أن تقوم لولا هذا الظرف الدولي الاستثنائي.

ارتكز الخطاب الصهيوني بعد الهولوكوست على ثلاث مرتكزات رئيسية:
الاضطهاد الوجودي: اليهود لن يكونوا آمنين في أي دولة غير “دولتهم الخاصة”.
التعويض الأخلاقي والتاريخي: على العالم أن يُكفّر عن صمته إزاء الهولوكوست، عبر دعم المشروع الصهيوني.
المظلومية الدائمة: والتي تحولت إلى أداة ابتزاز سياسي وأخلاقي في المحافل الدولية.
وبينما كانت أوروبا تتعافى من الحرب، بدأ الحراك السياسي لإنشاء “دولة إسرائيل” على أرض فلسطين، بدعم غير مشروط من الدول الكبرى، خاصة بريطانيا والولايات المتحدة، اللتين رأت كل منهما في دعم هذا الكيان الجديد وسيلة لترسيخ نفوذها في الشرق الأوسط.
في عام 1948، أُعلن قيام دولة “إسرائيل”، ولم يكن هذا الإعلان وليد رغبة شعبية أو توافق دولي شامل، بل جاء على أنقاض مجازر وعمليات تهجير قسري. النكبة الفلسطينية لم تكن مجرد نزوح، بل تطهير عرقي مدروس. قرى بأكملها مُسحت، وعائلات شُردت، وذاكرة كاملة حوصرت بين جدران الصمت العالمي.
خلال العقود التالية، لم تتوقف إسرائيل عن استخدام الهولوكوست كسلاح في المعركة السياسية. فكل انتقاد لسياساتها يُصنَّف ضمن خانة “معاداة السامية”، وكل محاولة لمحاسبتها تُواجه باتهام بـ”نزع شرعية الدولة اليهودية”.
لكن في المقابل، ماذا عن الجرائم التي ترتكبها هذه الدولة ضد الفلسطينيين؟
ماذا عن الحصار على غزة، والجدران العنصرية في الضفة، والمجازر في جنين ونابلس وخان يونس؟
كيف يمكن لمن يدّعي أنه ناجٍ من المحرقة، أن يكرر أدواتها بوجه آخر؟
استطاعت “إسرائيل” عبر الإعلام والمنظمات الصهيونية حول العالم أن تكرّس الهولوكوست كأعظم مأساة في التاريخ الإنساني، مغيّبة في المقابل كل المجازر التي ارتكبتها، لا سيما بحق الفلسطينيين.
في التعليم العالمي: تدرّس قصة الهولوكوست بشكل مكثّف في المدارس والجامعات، بينما يُتجاهل تاريخ الاحتلال الإسرائيلي.
في الأمم المتحدة: تستغل إسرائيل أي انتقاد لسياستها بوصفه معاداة للسامية، رغم أن قادة أمميين كثيرين وصفوا ما تفعله إسرائيل بأنه “فصل عنصري”.
في الاقتصاد: حصلت إسرائيل على مليارات الدولارات كتعويضات من ألمانيا ودول أوروبية، في حين يعاني ملايين الفلسطينيين من الحصار والفقر واللجوء.
لم يعد هذا التناقض الأخلاقي يمرّ مرور الكرام. ظهرت حركات يهودية حول العالم، بل ومن داخل إسرائيل نفسها، ترفض استخدام الهولوكوست كذريعة للاحتلال، مثل:
“يهود ضد الصهيونية” (Jews Against Zionism)
“الصوت اليهودي من أجل السلام” (Jewish Voice for Peace)
مفكرون مثل نعوم تشومسكي، وإيلان بابيه، و نورمان فنكلستين، الذين تحدثوا علنًا عن الانحراف الأخلاقي في استغلال المأساة التاريخية لتبرير القمع الحالي.
إن الهولوكوست يجب أن يبقى درسًا ضد كل أشكال الكراهية والعنصرية والقتل الجماعي، لا أن يتحول إلى حجة لإقامة نظام جديد من القمع. لا يمكن أن يكون الرد على المحرقة هو بناء دولة تمارس المحو على أساس ديني وعرقي.
فمن رام النجاة من نار النازية، لا يحق له أن يوقد نيرانًا أخرى في غزة والضفة وسائر الأرض المحتلة.