وثائقية

تحليل نقدي للصراع الطبقي وتأثيرات الحرب في مسرح "برتولت بريخت"

بقلم: الدكتور إبراهيم حامد عبداللا أستاذ الأدب الألمانى رئيس قسم اللغة الألمانية كلية الآداب جامعة بنى سويف

إن مسرحية “الأم شجاعة وأبناؤها” لبرتولت بريخت هي واحدة من أشهر وأعمق أعمال المسرح الملحمي. عرضت لأول مرة في عام 1939، وهي بداية لإحدى أعظم وأهم المسرحيات في القرن العشرين، التي تستكشف الحرب والتحديات الاجتماعية والأخلاقية المترتبة عليها بطريقة فريدة. يستخدم بريخت في هذه المسرحية تقنيات المسرح الملحمي، ليجعل الجمهور لا ينغمس فقط في الأحداث العاطفية، بل يتم تحفيزه أيضًا على التفكير النقدي في الهياكل الاجتماعية التي تسمح للحروب بأن تدوم.
تدور أحداث المسرحية في فترة حرب الثلاثين عامًا، وهي واحدة من أكثر الحروب تدميرًا في التاريخ الأوروبي التي أثرت في البنية الاجتماعية والسياسية لأوروبا. تروي القصة شخصية الأم شجاعة، وهي تاجر يرافق الجيوش في الحرب وتستفيد من الآثار المدمرة للصراع. ولكن رغم أنها تعمل وسط الحرب، إلا أنها تفقد أبناءها واحدًا تلو الآخر. تطرح المسرحية السؤال الأخلاقي المركزي حول حقيقة الحرب ورفضها في ظل تطور الشخصيات.
تعتبر شخصية الأم شجاعة شخصية معقدة، إذ إن اسمها يحمل طابعًا ساخرًا، حيث لا تمثل هذه الشخصية الشجاعة أو البطولة بالشكل التقليدي. بدلاً من ذلك، تجسد موقفًا براجماتيًا للبقاء، يظهر للوهلة الأولى كقوة وصمود، لكنه أيضًا يعكس قسوة أخلاقية تجعلها غير قادرة على إدراك الآثار العميقة للحرب ودورها فيها. أعمالها ليست محكومة بدافع إيديولوجي أو سياسي، بل تدفعها الضرورة للبقاء على قيد الحياة وتأمين رزقها. على الرغم من الخسائر التي تتكبدها، تستمر في تصرفاتها التي تمليها الحاجة للبقاء على قيد الحياة، دون أن تدرك العلاقة الحقيقية بين ربحها ودمار الحرب.
تتمثل مأساة الأم شجاعة في عدم قدرتها على إدراك تكلفة الحرب الإنسانية والأخلاقية. على الرغم من الخسائر الفادحة التي تلحق بها، فإنها تظل وفية لمواقفها وتعتبر الحرب وسيلة لضمان بقاء أسرتها. إن نظرتها إلى الحرب ليست من زاوية أخلاقية، بل من زاوية اقتصادية تجارية. وفي عالمها، تعتبر الحرب مجرد فرصة تجارية يمكن من خلالها جني الأرباح، بينما تضحي بفلذات أكبادها في هذا المسار، تعكس تصرفاتها في الواقع حالة من الإنكار، حيث لا تعترف بالضحايا أو حتى بالعوامل الاجتماعية والسياسية التي تدفع إلى الحرب.
يستخدم بريخت تقنيات المسرح الملحمي في “الأم شجاعة وأبناؤها” ليتيح للجمهور فرصة التفكير النقدي. طوال العرض، لا يتم السماح للجمهور بالانغماس العاطفي في الشخصيات، بل يتم عرض الأحداث من منظور موضوعي. استخدام بريخت لتقنيات التشويش والإبعاد يبقي الجمهور دائمًا مدركًا لحقيقة أن ما يحدث على خشبة المسرح هو أكثر من مجرد قصة خيالية، بل هو تحليل للظروف الاجتماعية والسياسية الحقيقية. يهدف بريخت بذلك إلى تحفيز الجمهور على إعادة التفكير في المجتمع والبنى التي تُبقي الحرب قائمة.
إن المسرح الملحمي لا يهدف إلى جعل الجمهور يندمج عاطفيًا مع الشخصيات، بل يحفزه على التفكير النقدي في القضايا الأخلاقية والسياسية التي تثيرها المسرحية. في عالم تُهيمن عليه الحروب والاستغلال، يتساءل بريخت: هل من الأخلاق أن يظل الإنسان باقيًا على قيد الحياة على حساب الآخرين، كما تفعل الأم شجاعة؟ هذا يضع المسرحية في سياق سياسي قوي: حيث يرغب بريخت في أن يزيد الوعي الاجتماعي والاقتصادي لدى الجمهور، ويحرضهم على الوقوف ضد الظلم الاجتماعي في المجتمع.
نقطة مركزية أخرى في المسرحية هي طريقة تمثيل الرأسمالية كنظام يمكّن الحرب ويستفيد من معاناة البشر. فبالنسبة للأم شجاعة، لا تُعتبر الحرب كارثة أخلاقية، بل هي فرصة اقتصادية للربح. إن المسرحية تُظهر كيف أن الهياكل الرأسمالية تضع الناس في حالة من العبودية الاقتصادية، حيث تكون أخلاقياتهم مغطاة بمقتضيات البقاء. فشخصية الأم شجاعة هي نتاج لهذا النظام، الذي يرى الحرب كأمر طبيعي وثابت ويقبل ضحاياها باعتبارها جزءًا من النظام الاقتصادي القائم.
تختتم المسرحية بلحظة دراماتيكية ومعقدة، حيث تظل الأم شجاعة ثابتة في موقفها، غير قادرة على تغيير رؤيتها للأمور. على الرغم من فقدانها كل شيء، تظل غير مدركة لتأثير الحرب المدمّر. تُظهر شخصيتها رمزًا للعمى الأخلاقي والفشل البشري في مجتمع تسوده الحرب والاستغلال.
إن مسرحية “الأم شجاعة وأبناؤها” تظل عملًا قويًا وخالدًا يتحدى الواقع الاجتماعي والسياسي المعاصر بشكل مستمر. يطلب بريخت من الجمهور أن لا ينظروا إلى المسرحية فقط كحكاية تاريخية، بل كدعوة للتساؤل حول الظروف الاجتماعية التي تسبب الحروب وعدم المساواة في عالم الأم شجاعة. وهنا تشجع المسرحية على التعامل مع التحديات الأخلاقية والسياسية في العالم المعاصر، مما يجعلها واحدة من أهم الأعمال الأدبية في القرن العشرين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى