عتريس المدرسة: مأساة منصور قصة قصيرة
بقلم : الدكتور ناصر الجندي
كان منصور وكيل المدرسة شخصية مثيرة للجدل بين زملائه. كان دائم التحدث عن الفضيلة والنزاهة، ويمضي أوقات الفراغ بين الصلوات والدعاء في المكتب، ممسكًا بالمصحف أحيانًا أو غارقًا في التأمل المزعوم. الجميع كان يراه متدينًا حريصًا على أداء واجباته، لكن شيئًا ما في عينيه وفي نبرة صوته كان يُشعر من حوله بعدم الارتياح.منصور لم يكن متدينًا بحق، بل كان إدمانه الحقيقي هو الكذب. كان يستخدم كلمات الإيمان وأفعال العبادة كقناع يخفي وراءه دوافعه الحقيقية: السيطرة والانتقام. كان يمتلئ داخله بشعور متضخم بالعظمة، يرى نفسه محور الكون، وزعيمًا في معركة وهمية يخوضها ضد “أعداء” نسجهم في مخيلته.بدأت القصة مع الأستاذ سامي، مدرس العلوم المجتهد. كان سامي محبوبًا بين الطلاب وزملائه، مما أثار غيرة منصور. في أحد الاجتماعات المدرسية، وقف منصور فجأة وقال بصوت متهدج يحمل ادعاء الحزن:”للأسف، وصلتني أخبار أن بعض الأدوات في معمل العلوم اختفت. ولدي شكوك قوية حول الأستاذ سامي… لكنني أدعو الله أن أكون مخطئًا.”أثارت كلماته موجة من الصدمة في القاعة. حاول سامي الدفاع عن نفسه، لكن منصور كان قد أحكم خطته مسبقًا. استعرض “أدلته”، وهي مجرد تفاصيل صغيرة حرفها لتخدم قصته. شعر المدير أن الموقف لا يحتمل المجازفة، فقرر إيقاف سامي عن العمل مؤقتًا لحين التحقيق. غادر سامي المدرسة مصدومًا، بينما وقف منصور في مكتبه ينظر من النافذة بابتسامة خفية.لم يكن سامي الضحية الأولى، ولن يكون الأخيرة. كان منصور يختلق القصص عن زملائه بشكل منتظم، يدفعهم إلى الزاوية ويقنع نفسه أنه يفعل ذلك لحماية المدرسة من “الفساد”. لكن الحقيقة كانت أبسط وأقبح: كان يكذب لأنه مدمن عليه، ولأنه يرى في الكذب وسيلة ليبقى في الصدارة، زعيمًا لا يُعلى عليه.مع مرور الوقت، بدأ قناع منصور يتصدع. تكررت الاتهامات الملفقة، وبدأت سمعة المدرسة تتضرر بسبب تحقيقات إدارية لا تنتهي. زملاؤه، الذين كانوا يخشونه في البداية، بدأوا يتحدثون بصوت عالٍ عن شكوكهم.ذات يوم، وبينما كان منصور يمشي في الشوارع، شارد الذهن، بدأ يسمع أصواتًا في رأسه. كانت الأصوات تردد عبارات مألوفة: “أنت الزعيم، أنت على حق.” وقف في منتصف الطريق، وأخذ يصرخ:”والنبي أنا صح! والنبي أنا زعيم!”بدأت الذكريات تتداخل في ذهنه، خاصة مشاهد فيلم “شيء من الخوف” الذي كان يحبه في شبابه. في عقله المضطرب، تحول إلى عتريس، زعيم القرية الذي لا يقبل التحدي. بدأ يردد جملاً من الفيلم، مخاطبًا أشخاصًا غير مرئيين:”عتريس يحكم القرية… عتريس يعرف الصح!…. والنبي أنا عتريس”أصبح منصور شخصية مأساوية تسير في الشوارع بلا وجهة، تتحدث عن الزعامة وعن الحق، بينما لا أحد يلتفت إليه سوى أطفال الحي الذين يضحكون من أفعاله.أما المدرسة، فقد استعادت حياتها الطبيعية بعد غيابه. زملاؤه وجدوا السلام الذي افتقدوه لسنوات. ومع ذلك، بقيت قصته درسًا عميقًا للجميع عن خطر الأقنعة الزائفة، وعن الإدمان الذي يبدأ بالكذب وينتهي بالضياع.